الروائي جاسم الرصيف

روائي وصحفي عراقي

6.20.2008

د. محمد الداهي: قراءة في رواية رؤوس الحرية المكيّسة

clipimage0021.jpg

عبث البشر

قراءة في رواية” رؤوس الحرية المُكيسة” لجاسم الرصيف

د.محمد الداهي

رغم أن الوضع الحالي للعراق قد استأثر باهتمام المحللين والمتتبعين السياسيين على اختلاف مشاربهم وأطيافهم، فهو لم يثر بعد شهية المبدعين والمخرجين السينمائيين لإعادة بنائه بطرق جمالية وفنية.

.

وفي هذا السياق يمكن أن ندرج الرواية العاشرة ([1]) “رؤوس الحرية المكيسة ” للروائي العراقي جاسم الرصيف، والتي شخصت، بجرأة، الأزمة السياسية والاجتماعية التي يعاني منها العراق رغم ما يحذق به من أخطار ومزالق نتيجة ” اختلاط الأوراق” و ” تضارب المواقف والمصالح” . لقد حاول جاسم الرصيف أن يخلق مسافة مع ذاته ووطنه لفهم ما يجري ظاهريا في قلب الموصل، و ما يحاك سريا في هوامشها وأطرافها، ولاستنباط العبر المناسبة للمواطنة الحق التي ستعيد الاعتبار إلى المواطن العراقي وتفتح له آفاقا جديدة لتدبير أموره الشخصية والعامة وهو ينعم بحريته وسؤدده وكرامته. ومن إيجابية هذه الرواية أن مؤلفها أعاد تشخيص الوضع العراقي بطريقة مغايرة حتى لا يكون نسخة للصورة النمطية التي تروج لها وسائل الإعلام، كما أنه استثمر المادة التاريخية لوضع تجربة مأساوية في التاريخ المعاصر تحت المجهر وذلك لاستكناه خيبات آمال العراقيين في بناء مجتمع آمن ومستقر ومتمتع بحياة كريمة، ولسبر أغوار الجراح التي أحدثتها في نفوسهم الحروب العبثية المتعاقبة.

1-دلالة العنوان:

يرى رولاند بارث أن للعنوان معان متعدد ومتزامنة، ومن ضمنها على الأقل :”1-إن ما يعلن به مرتبط بأحداث محتملة تعقبه،2- الإعلان بأن قطعة أدبية ستليه ( أي أن هناك، في الواقع، سلعة)، وبعبارة أخرى يقوم العنوان، دوما بوظيفة مزدوجة أكانت تلفظية أم إشارية”([2]). وهو يوحي بمعان كثيرة ويخاطب توقعات القراء، مستبقا ما يمكن أن يتضمنه النص من جهة ، ومقدما نظرة مجملة عن شكله أو محتواه من جهة ثانية. وبما أنه، علاوة عن تمييز النص ووسمه كما لو كان سلعة، فهو يتجسم في ذهن القارئ كما لو كان لغزا ينبغي تفكيكه لاستخلاص ما يحويه من حقائق مغفية وأبعاد دلالية ورمزية.

تتجلي الوظيفة التلفظية فيما خلفه الروائي في العنوان من آثار وبصمات ذاتية. ومن ضمنها:

ا- التثمين: ويتجلى في إدراج الروائي الصيغة التثمينية (Modalité appréciative) ” المُكيَّسة” في العنوان، وهي نعت لرؤوس الحرية.اشتقها الروائي من الاسم الجامد ( الكِيس وليس الكيْس) ، ويقصد به اسم ذات يدل على مادة لها حيز في الوجود. وهو وعاء من القماش أوغيره لاستيعاب الحبوب أو الدراهم وما شابه ذلك، ثم اشتق منه اسم مفعول ( مُكيَّسة) مستمد من الجذر ( كَيَسَ). ومن خلال السياقات التي ورد فيها لفظ ” مكيسة” يتضح أنه لا علاقة له بمثليه المشتق من ” كيَّس” ، والذي يعنى به جعل الإنسان كيِّسا أي ظريفا وحسن العمل؛ وإنما قصد به الوعاء الذي يوضع فيه الرأس لصد صاحبه عن معرفة ما ومن يحف به. ” وقف عاريا إلا من لباسه الداخلي والكيس الذي يغطي رأسه” ص176. ” عندما رأتهم يضعون( مكيسي الرؤوس) في سياراتهم ثم يمضون ورشاشاتهم مصوبة نحو ( الثالولة) التي غطتها المروحيات المدججة بالصواريخ” ص165.” معظم ذوي ( مكيسي الرؤوس) وأكثرهم من عمال البناء والباعة المتجولين” . ” لعل واحدا من هؤلاء يفهم أن كل ( مكيسي الرؤوس) فقراء أبرياء لا علاقة لهم( بطويل أو قصير!” ص165. ” نزل( رجل مكيّس) الرأس صحبة جندي أمريكي بنظارة سوداء، رفع الكيس عن رأسه ثم عاد مسرعا نحو سيارته” ص264.

ب-الإيحاء: قرن الروائي الرؤوس بالأكياس للدلالة على معاناة العراقيين من العسف والحيف الأمريكيين. فهم لا يعاملونهم معاملة إنسانية، ولا يحاكمونهم محاكمة عادلة، وإنما يمارسون عليهم أعتى أصناف التعذيب النفسي والانتهاك الجسدي. ومن ضمنها تغطية رؤوسهم بأكياس لصدهم عن معرفة جلاديهم والأمكنة التي يستنطقون ويعذبون فيها، و الحط من معنوياتهم وتأزيم حالتهم النفسية. وقد تولد عن إضافة الحرية إلى الرؤوس انزياح لكون اللفظين يتنافران تركيبيا ( الجمع بين الملموس والمجرد، وبين الحي وغير الحي) ودلاليا ( أسندت الرؤوس لغير فاعلها، وذلك لأن الحرية ليس لها رأس). ولا يتبدد هذا الخرق التركيبي والدلالي ( نفي الانزياح) إلا بالانتقال إلى المدلول الثاني وهو المقصود ، أي رؤوس العراقيين التواقين إلى حرية بلدهم وسيادته. لكن الأمريكيين، ومن يدور في فلكهم، يقطفون ما أينع منها ليرغموا أصحابها على تبني وسوغ مشروعهم لدمقرطة العراق على هواههم ومقاسهم،وبماركة ” الحكومة الجديدة” التي لا تحرك أدنى ساكن إزاء المجاز التي ترتكب في حق المواطنين العزل.

2-التوليف :

اعتمد جاسم الرصيف في روايته الأخيرة على تقنية التوليف المعتادة في معظم رواياته. وتضطلع هذه التقنية، عموما، بوظيفتين. تتعلق أولاهما بمقروئية العمل. وفي هذا الصدد يشكل التوليف عاملا معرفيا (Opérateur cognitif) يدعم تمساك مكونات النص وعناصره. فالغاية المتوخاة منه لا تكمن في إلصاق حكاية بأخرى، وإنما في إقامة علاقات فيما بينها. وتكمن الوظيفة الثانية في الإبداعية(Créativité) التي ينبغي للروائي، على نحو المخرج السينمائي، أن يتحلى بها للخروج عن بعض القواعد المتعارف عليها، وإعادة تقويم الواقع واستكشاف مجهولاته بطرائق ومنظورات جديدة([3]).

لقد حتم التوليف على جاسم الرصيف تقطيع القصة ( المدلول الحكائي) إلى شذرات حكائية لالتقاط أحداث متزامنة يتعذر على الترتيب الخطابي استيعابها. ” يمكن لأحداث كثيرة في القصة أن تجري في الوقت نفسه، لكن الخطاب ملزم على ترتيبها على نحو يأتي الواحد منها عقب الآخر” ([4]). لقد اضطر جاسم الرصيف ، محاولة منه لفهم كيف تتفاعل الشخصيات وتنفعل مع الحدث نفسه في فترة متزامنة، إلى إيقاف محكي واستئناف آخر. وإن تداخلت المحكيات فيما بينها فهي تتمتع ظاهريا باستقلال بنائي ودلالي. وهذا ما يمكن أن يحفز القارئ على استلال محكي” البدراني” أو غيره من البنية الحكائية العامة أو تتبع مساره قافزا على محكيات أخرى بهدف معرفة ما حصل له في النهاية. لكن بما أن الروائي أفرغ محكياته في سبيكة واحدة، فهذا يقتضي البحث عن طبيعة العلاقات المنسوجة داخلها. ويندرج التوليف الحكائي عموما في إطار التعريف ببورتريهات الشخصيات، وتشخيص حدث معين من زوايا ومنظورات مختلفة، وتكسير بنية الوقائع المتعاقبة بطريقة كرنولوجية، وتنويع اللغات والأصوات.

3-البورتريهات:

إن السمة الغالبة على مختلف المحكيات المتناسلة هو التركيز على البورتريه. فتارة يقدم الروائي بورتريه شخصية رئيسة، وتارة يعرض بورترية المكان الأساس الذي تجري فيه معظم الأحداث، ويمثل صورة مصغرة للعراق (ما يجري في الفضاء الرئيس: الثالولة). وفيما يلي بعض البورتريهات الأساسية في الرواية:

* العضباء: استشهد زوجها قبل يومين من توقف الحرب العراقية-الإيرانية، مخلفا وراءه ابنا ( زمن) وبنتين( صمود وعنود). لم يسعف المعاش المتواضع العضباء على مواجهة تصاريف الحياة وتكاليفها، فاضطرت إلى منع ابنها من مواصلة مشوار الدراسة واشترت له عربة لبيع الخضار، لكن الشيخ بعيو أجبره على الانخراط في الجيش الشعبي ( غير النظامي) رغم حداثة سنه وعدم تدربه على حمل السلاح قط . وبعد أن احتل الأمريكان العراق تلاشى الجيش الشعبي كما يذوب فص الملح ، فأطلق سراحه بعد أن قضى ردحا من الزمن في السحن بسبب صد جندي أمريكي من التحرش بأخته أثناء مداهمته لبيتهما صحبة جنود آخرين. تكلف البدراني بعشاء الضيوف احتفاء بعودته إلى والداته التي لم يهدأ لها بال وهي تتابع عن كثب أخباره في غيهب السجن. وكان البدراني، بين الفينة والأخرى، يقرض العضباء لتسديد ديونها ومواجهة المصاعب التي تعترضها. وكانت تتمنى أن يصبح زوجا لإحدى بنتيها لما يتوفر عليه من مواصفات تحبذ أي أم أن تكون متوفرة في زوج ابنتها.

* زمن: أصبح، بعد غزو العراق، عاطلا عن العمل بعد أن قضى فترة من الزمن في صفوف الجيش الشعبي. لا يحلم إلا بشراء سيارة أجرة لإسكان أسرته في بيت نظيف. ألقى الأمريكان القبض عليه للتحقق من كونه سنيا أو شيعيا، واستدراجه للتعاون معهم قصد تزويدهم بالمعلومات الهامة. بعد إطلاق سراحه، بدأ يجوب الشوارع بعربته لبيع الحلوى والسجائر والعلك. حفزه كرم على الانخراط في المقاومة لمواجهة المحتل الأمريكي الذي استحدث فرقا للموت بهدف بث الرعب في صفوف الناس وثنيهم عن مساندة المقاومة الوطنية ودعمها. ولم يستسغ زمن أن يعاين مظاهر مستبشعة تتمثل أساسا في إقدام هذه الفرق على قتل الأطفال والأبرياء بطريقة همجية ومتوحشة.” والمصيبة المصيبة أنهم قتلوا أربعة أطفال!!؟؟ ما ذنب الأطفال؟!! يمكن هذا من علامات يوم القيامة!! الدماء في كل مكان!! والجثث!! أين الرحمة؟! أين الإنسانية؟! أين الحكومة الجديدة؟!” ص315.

كاشان:امرأة جميلة تحضن في بيتها فتيات لجلب الزبائن ذوي الدخل المحترم. وتسخر بعضهن وفتيان آخرين لجمع النفايات من مزبلة الشيطان بوادي الحرامية، وإعادة بيعها إلى المخضرم بن عمشة الذي يتكلف ببيعها إلى المهربين الدوليين وأصحاب المعامل لإعادة تصنيعها. وهو، بدوره، ويعرض على كاشان، بين الفينة والأخرى، اقتناء بضائع جديدة (حبوب منع الحمل، قنابل يدوية، مسدسات، خضار، بندقية أبو عرنة المسروقة..) حتى لا تتأثر شؤونها المالية نتيجة لما آلت إليه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في العراق. واضطرت، على إثر تراجع نشاط المزبلة بسبب بدخول الأمريكان إلى العراق، إلى جمع النحاس المتطاير من القنابل المنفجرة، و البحث عن زبائن جدد حفاظا على وتيرتها المعتادة في الحياة. أهانها البدراني لأنه لم يستجب لطلب للزواج بها بعد أن اكتشف خيانته له مع من تؤثره عليه ( الأحيمر) لأنه يمارس الجنس بطريقة متوحشة كما هي عادة الغمر. ومع ذلك فهي تشعر، في قرارة نفسها، بأنها تحب البدراني وتحرص على عدم فقدانه بعد أن خبر تضاريس جسدها سنينا عديدة، وتؤثره على كثير من الرجال الذين يتمنون لحس قدميها مقابل مأوى أو طعام أو متعة جنسية . كان لاختفاء البدراني المفاجئ عن بيتها أثر كبير في نفسيتها ، لذا اقترحت على المخضرم مساعدتها على الانتقام منه، ووعدها بأنه سيصير” سلاطة لا تصلح لغير الكلاب” ص251. إن طبيعة العلاقة التي تنسجها مع عينة من الرجال، تفتح لها أفاقا ومشاريع جديدة. وفي هذا الصدد، ندرج تشجيع كاكا صالح لها لتوسيع دكانها حتى يستوعب أكبر عدد من البضائع وتجهيزه بتلفاز ومولد كهرباء. وهو ما در عليها مصاريف إضافية، وجعلها تستقطب الزبائن الذين كانوا يترددون على مقهى أبو عرنة. خصصت مبلغا ماليا لمن يدلها على ” إخلاص” باعت شرفها وهي عذراء لكاكا صالح الذي باعها بدوره إلى أجانب. أفلتت من قبضة كاشان بعد عودتها مغتصبة فاقدة لعذريتها، فاختفت أياما في بيت العضباء قبل أن يقودها البدراني وهو ملثم إلى مكان مجهول.

البدراني: ينتسب إلى مدينة الرمادي ( محافظة الأنبار).تخرج من جامعة بغداد، ثم أدى الخدمة المدنية بصفة ( نائب عريف مهذب)، ثم أصبح مدرسا للتربية الوطنية. اختار اسما مستعارا ( أحمد محمد البدراني) دون أن يتمكن أحد من أهل الثالولة من معرفة هويته الحقيقية. فر إلى دهوك بعد أن تناهى إلى سمعه بأنه مطلوب من لدن نظام صدام بتهمة إطلاق رصاصتين طائشتين تحية لروح اللواء الركن الطيار ” محمد مظلوم” الذي أعدم بتهمة التآمر على الحكومة آنذاك . ومنذ أن ضبط البدراني كاشان متلبسة مع الأحيمر أصبح يشعر بأنها تنظر إليه بعين شزراء، لكنه تصرف بطريقة مرنة مع الواقعة ، إذ اضطر إلى تجاهلها كما لو أنها لم تحدث قط، وذلك لأنه يدرك بـأن نفوذها تعزز بفضل علاقتها المريبة مع متعاونين مع قوات الاحتلال، وبأن حمايتها له، ماديا ومعنويا، أنقذته من السجن ووفرت عليه عناء الشحاذة . ومع ذلك يتحسر على الثماني سنوات التي قضاها سائقا لها أو نائما على فراشها الذي تفوح منه روائح الفجور ومزبلة وادي الحرامية.

اتخذ اسما مستعارا آخر حتى لا يتعرف إليه الجواسيس والمخبرون ، خاصة بعد أن أصبح متهما بالتعامل مع جهات معادية في الشمال وعبور الحدود دون إذن رسمي من لدن الحكومة. في السليمانية ، حاول العقيد الركن المزور إقناعه بالتعاون مع الأكراد لتزويدهم بمعلومات ثمينة عما يجري في القصر الجمهوري مقابل مال وجواز سفر إلى دولة أخرى، لكنه فاجأه بأن لا يحمل إلا معلومات تافهة. ” فأجبت دون تردد: لأن معلوماتي تافهة!! أنا مجرد موظف في بلدية. هل يريد (الأستاذ هفال) معلومات عن مزابل المدينة وعدد الكناسين؟!” ص195. أصيب ، قبل الاحتلال، بالعرج إثر انفجار سيارة كانت تقوده، صحبة أكراد، إلى اجتياز الحدود التركية. قضى بضعة شهور في مستشفى قروي عراقي ، ثم عاد إلى السليمانية ليقابل صديقه الكردي(أنور عبد العزيز) الذي استمات في مساعدته على الهروب خشية أن يتعرف الجواسيس إليه .وبعد أن تبين للبدراني أن إقامته في السليمانية قد سببت لصديقه مكروها ما ( أهو حي أم ميت)، اضطر إلى التوجه إلى الموصل مشيا على الأقدام رغم أنه أعرج ومتنكرا في صورة درويش. يتردد على الثالولة بين الفينة والأخرى متخفيا حتى لا يتعرف إليه أحد. واستقر به المقام في الثالولة نتيجة عوزه المالي وخوفه من العودة إلى الرمادي على عهد صدام.

* الثالولة: ما يحدث في الثالولة صورة مصغرة لما يقع في العراق برمته بعد أن أنهكه الحصار الدولي المضروب عليه منذ سنة 1991، وزادت الغارات الأمريكية، أثناء الاحتلال، من تأزيمه وتدهوره. كانت تعيش على إيقاع خاص مضبوط من لدن ( الشيخ بعيو) استعدادا لحرب أخرى دفاعا عن الوطن، لكن سرعان ما تغير إيقاع الحياة على إثر دخول الأمريكان إلى الثالولة، وذلك لتصوير السكان وهم يبحثون في المزبلة، ومباغتة كل من كان يخدم النظام السابق. ومن الأسماء التي ألقوا القبض عليها نذكر: زمن لأنه كان منخرطا في الجيش الشعبي الذي يشرف عليه الشيخ بعيو، وحاول ضرب جندي أمريكي نتيجة التحرش بأخته،و دليو الذي خرج من سجن الحكومة ليدخل سجن الأمريكان، وعلى ملا حمادي بوصفه نائب ضابط متقاعد ومتطوع رغما عنه في الجيش الشعبي لمقاتلة الأمريكان في الخنادق التي تحف بالثالولة. ثم بعد ذلك اختطفت أسرته. فر الشيخ بعيو إلى مكان مجهول دون أن يُعرف له أثر. انتعشت في الثالولة كثير من الظواهر الاجتماعية من جراء لهث الناس وراء الدولار ولو كان على حساب كرامتهم ( السرقة والتهريب والعهارة والجوع والبطالة والغش). ومن ضمنها نذكر البغاء والتهريب والتنقيب في المزابل. ومن بين القضايا التي استأثرت باهتمام السكان هو دخول التلفاز إلى مقهى أخو عرنة، وهو ما مكنهم من مشاهدات قنوات كانوا محرومين منها في العهد السابق. ولم يسلم هذا المقهى من الرصاصات التي يطلقها مسلحون مجهولون لتصفية أفراد المقاومة وترهيب الساكنة، وهو ما أدى إلى قتل مالكه وأربعة أطفال وشاب ورجلان عجوزان.

4- تغيير زوايا التبئير :

حتمت تقنية التوليف على البدراني تبئير الأحداث من زوايا مختلفة. وإن كانت تبدو ظاهريا بأنها متوقفة على التبئيرين الآتيين:

أ-التبئير الداخلي(Focalisation interne): يُقدم كل شيء من خلال شخصية البدراني. فهو ، بصفته فاعلا داخليا، يتعاون مع الناظم الخارجي لسرد الأحداث وإضاءة جوانبها الداجية من زوايا مختلفة، ويعرض أحداثا شارك أو تفاعل معها بطريقة سلبية أو إيجابية. إن التطابق الحاصل بين محفلي التبئير ( البدراني الطفل أوالطالب أوالموظف) والسرد ( الرجل الناضج الذي يسترجع ذكرياته)، لا ينبغي أن يطمس اختلاف وظيفتهما. وهكذا، فالسارد، في أغلب الأحوال تقريبا، ” يعرف” أكثر من البطل حتى ولو كان هو البطل نفسه”([5]).

إن التمييز بين مختلف أنواع التبئير ليس مطلقا، إذ يمكن أن يتحدد التبئير الداخلي على شخصية بكونه تبئيرا خارجيا على شخصية أخرى. وهذا ما نعاين جزءا منه عندما يتحدث البدراني عن بعض الشخصيات ( أنور عبد العزيز وبكر و العقيد الركن المزور عدنان والأستاذ هفال الجاسوس الكردي) التي تعرف إليها لكنه يجهل أشياء كثيرة عن أفكارها ومشاريعها.وإن بأر السرد على شخصيته فهو يتجنب الخوض في بعض القضايا التي تمس خلقته(عاهة العرج) أو مصيره( مبالغته في التخفي عن الأنظار بعد سقوط بغداد) أو طبعه(احتراسه من الأخطار المحذقة به) وهذا ما جعل منه شخصية مبهمة وملغزة.

ب-البتئير الصفر: ما تبقى من الأحداث يبدو غير مبأر ( التبئير الصفرFocalisation zéro). فبواسطة الشخصيات المُبأّرة تتوالى الأحداث ويسترسل السرد. ومن خلال هذا النوع من التبئير يتضح أن الناظم الخارجي يعرف أكثر مما تعرفه الشخصيات، فهو ملم بكل شاذة وفادة تهم أفكارها وأهواءها وحركاتها. ومع ذلك قصد أن يحذف بعض الأحداث( على نحو عدم تحديد الوجهة التي فر إليها الشيخ بعيو) وذلك لحفز القارئ على تشغيل خلفياته المعرفية وإعمال ذكائه لملء الفجوات والبياضات بما يناسبها من وقائع، وتعليلها وتأويلها وفق السياقات التي وردت فيها. وفي النطاق نفسه، أغفل التطرق إلى مصير بعيو لأنه، احتكاما إلى السناريوهات الممكنة، قد يكون متخفيا في مكان آمن خشية أن يلقي الأمريكان أو معاونوهم ( خاصة من ملشيات البيش مركة) القبض عليه لاستنطاقه وتعذيبه وإعدامه.

ويشترك الناظم الخارجي والفاعل الداخلي في تبني الوظيفة الإيديولوجية نفسها، والتي تتمثل في وضع عبارات كثيرة داخل أقواس للتعليق على حدث أو تبريره أو تفسيره وهو ما يدعم “التعليل الواقعي”([6]). ولما نستقرئ هذه العبارات، التي بالغ الروائي في توظيفها، نجدها تنتسب، عموما، إلى المحاور الآتية: السخرية ( على نحو: ” بعد أن شتمت مجموعة راكضة من الأطفال (أولاد الجائفات!!) السائبين كاد أحدهم أن يسقطها على الأرض” ص16، ” مع أوائل أشعة الفجر، اجتمعت ( أصابع كاشان النظيفة) أو (شركة الشيطان)، كما يحلو لبعض الساخرين تسميتها” ص28) أو للتوضيح ( لأنه ( ابنها الوحيد الذي يعيل العائلة الآن) ص11، ” فأخذتها منه متظاهرة بالامتعاض من ( خسارتها في هذه الصفقة!!) ص29) أو تكرير عبارات مسكوكة معللة تعليلا موضوعيا مزعوما([7]) ( ” تناول العشاء الذي جلبته له أمه مع وصية (السياسة لعنة فلا تقربها!!) ص16،” في اليوم الأول للحرب: (فداكم وفدى أمتنا المجيدة الأهل والولد!!) ص30).

5-الأصوات الإيديولوجية:

تحفل الرواية بأصوات إيديولوجية عديدة تتصارع فيما بينها لانتزاع الشرعية فيما يخص تدبير الشؤون العامة وتسيير دواليب الحكم. على المستوى العمودي تتجابه قوتان غير متكافئتين: نظام صدام الذي ما أن ينهي حربا حتى يدخل في حرب أخرى بدعوى الدفاع عن ” الأمة المجيدة”، وهو ما أثر سلبا على المستوى المعيشي للشعب وسعيه إلى حياة كريمة. وفي المقابل تذرع الرئيس الأمريكي ب” الكذبة النبيلة” ( على حد تعبير المحافظين الجدد) ليعطي الضوء الأخضر لجيوشه بغزو العراق وتنحية الطغمة التي تحكمه و”دمقرطة” مؤسساته. وإن استطاعت القوات الأمريكية بسط نفوذها على التراب العراقي فهي لم تستطع أن تحقق ما كانت تصبو إليه. لقد وجدت نفسها، مع مر السنين، في مستنقع دموي رهيب محفوف بشتى المخاطر، ومشرع على آفاق مغلقة وقاتمة. ولما قرر بوش غزو العراق سانده الأكراد بهدف سحق أعدائهم في بغداد والانتقام منهم. ولما دخلت الجيوش الأمريكية إلى العراق، ساعدها البيش مركة على تعرُّف معالم المناطق المكتسحة وخصوصياتها، واعتقال كل من له صله بنظام صدام حسين، وترجمة استنطاقات المشتبه فيهم إلى اللغة الانجليزية .

توجد، على المستوى الأفقي، أصوات إما تؤيد هذا الطرف أو ذلك أو تناوئهما معا متبنية اختيارات أخرى أملاها الوضع الأمني المتأزم في العراق. وفي هذا الصدد يعتبر الشيخ بعيو ركنا من أركان نظام صدام المتهالك. فهو الذي يرغم الناس على التجنيد، ويتفقدهم في خنادقهم قصد تهيئهم ماديا ونفسيا للدخول في حرب جديدة على الأبواب. وبالقابل، يعد من تقاعس عن أداء الخدمة العسكرية بالإعدام. ولما دخل الجيش الأمريكي إلى بغداد فر الشيخ، أسوة بالرؤوس الكبيرة، إلى جهة مجهولة.لم يستجب أغلب السكان لدعوة الشيخ بعيو للانخراط في الجيش رغم التهديدات الموجهة لهم، وفضلوا البحث عن حلول أخرى لمواجهة تكاليف الحياة الصعبة. وهكذا ظهرت في زمن الحرب فئات اجتماعية جديدة؛ وذلك على نحو “العواليس” الذين يمتصون دماء غيرهم لإشباع شهواتهم السادية وتحقيق مآربهم الشخصية، والمهربين الذين يتسللون من الحدود لجب البضائع غير المتوفرة في الأسواق، ويعزون انتعاش نشاطهم التجاري وتحسن أحوالهم المعيشية إلى تحرر البلاد من الديكتاتورية ودخول الأمريكان إلى بلدهم لتحويله إلى جنة في أيام معدودة.وهذا ما يصرح به تباعا كاكا صالح والمخضرم اللذان يزودان كاشان بالبضائع الجديدة التي تدر عليها الأرباح.” شغلي التلفزيون، يعمل بالستلايت، وتفرجي على ما يدور في الدنيا، تحررنا من الدكتاتورية التي منعت عنا كل شيء” ص156.” لا يهم!! سيحولون البلد إلى جنة بعد أيام! أمريكا كلها هنا!! سنرى ما لم نره من قبل” ص175.

وفي الشمال تزايدت احتجاجات الأكراد لقلب نظام صدام وتسلم زمام الحكم. ولهذا ساعدوا الجيوش الأمريكية على غزو العراق لتحقيق مطالبهم والانتقام من أعدائهم.

يعكس البدراني صورة المقاوم المحبط والمثقف المأزوم الذي يعلن صراحة مقته لنظام صدام، ويعيش في الوقت نفسه في وسط ” منحط” بدعوى أن يضمن له الأمان والاستقرار والمتعة الجنسية. مثلت له خيانة كاشان صفعة مدوية أيقظته متأخرا من سباته ليبحث عن ملاذ آخر يقيه من شر المتربصين به. لم يستسغ التعاون لا مع الأكراد ولا مع الأمريكان مؤثرا أن يظل ذلك المثقف الحريص على سمعته و الوفي لمبادئه ( مواصلة المقاومة إلى أن يُبعد المحتلون ويتحقق التغيير المنشود). فضل أن يشاهد ما يجري في العراق من ستار متوجسا من عيون تترصده أينما حل وارتحل. إن صمته وحركته جعلا منه شخصية ملغزة ومبالغة في الحيطة والحذر. لا تفهم هذه الخاصية المتأصلة في نفسيته ونحيزته إلا مقترنة بوضع العراق الذي تتجاذبه أطراف متعددة لا تزيده يوما بعد يوم إلا التباسا وتعقيدا.

وتظل عامة الشعب خارج اللعبة السياسية بدعوى تذمرها من المسؤولين الكبار (على نحو أنور عبد العزيز الكري) أو تأزم وضعها المعيشي بسبب انتفاء المواد الأساسية( على نحو نفط الوقود الذي يستعمل للإنارة وطبخ الطعام، مع العلم أن العراق يعد من الدول المصدرة للنفط) أو التباس الأمر عليها بين صدام وبوش لكونهما يمثلان وجهين لحقيقة واحدة، وهي ترهيب الناس وإبادتهم في حرب عبثية رغما عنهم بحجة دفاعهم عن ” القيم الأصيلة”، التي لم يجن منها الشعب، عكس ما توقعاه وأرهصا به، غير الكوارث والجوائح. وتظل المقاومة الوطنية ( نموذج كرم) نقطة مضيئة في دهاليز معتمة لإنقاذ هذا الشعب من المحن التي ابتلي بها وأدى ثمنها غاليا، وحرمته من العيش الكريم في دولة حرة وذات سيادة.


[1] - صدرت عن المؤسسة العربية للنشر،ط1، 2007. من رويات جاسم الرصيف نذكر أساسا: الفصيل الثالث (1983)، القعر(1985)، أبجدية الموت حبا(1991)، تراتيل الأود(1992)، ثلاثاء الأحزان السعيدة(2001)، مزاغل الخوف(2004)..الخ.

[2] -Roland Barthes : « Analyse textuelle d'un conte d'Edgar Poe » in Sémiotique narrative et textuelle, Hachette,1973, p33.

[3] - استلهمنا هاتين الوظيفتين من:

Daniel Weyl : « Montage poétique » in Le collage et après, sous la direction de J.Louis Flecniakoska, L'Harmattan, coll,Esthétiques, 2000, pp53-59.

[4] -Tzvetan Todorov : « Les catégories du récit littéraire » in L'analyse structurale du récit , Communication8, Seuil, 1981, p145.

[5] -Gérard Genette : « Discours du récit » in Figures III, Seuil,1972 ,p 210.

[6] -Ibid p 263.

[7] - يعرف ميخائيل باختين التعليل الموضوعي المزعوم على النحو الآتي :”يظهر …وكأنه أحد مظاهر أقوال الآخرين المستترة، وفي حالتنا يبدو وكأنه من أقوال ” الرأي العام”. وجميع العلامات الشكلية توضح أن هذا التعليل صادر عن الكاتب الذي هو متضامن معه شكليا، إلا أن التعليل، في الواقع، يتموضع داخا منظور الشخوص الذاتي، أو منظور الرأي العام”. انظر في هذا الصدد إلى : الخطاب الروائي، ترجمة محمد برادة، دار الأمان، ط1، 1987، ص66.

11.01.2007

رؤوس الحرية المكيسة .. بين المطرقة والسندان

«رؤوس الحرية المكيّسة لجاسم الرصيف ... رواية عراقية بين السندان والمطرقة

سلمان زين الدين الحياة - 09/08/07//


منذ اندلاعها شكلت الحرب على العراق موضوعاً روائياً بامتياز. فتحويل الحدث التاريخي الى أثر روائي حرفة دأب عليها الكثير من الروائيين، ما يتيح الوقوف على كثير من التفاصيل التي يغفلها المؤرخون وتعكس النبض الاجتماعي في فضاءٍ معيّن. فالروائي كما المؤرخ يتخذ من الأحداث مادةً لعمله غير أنه يُعيد تشكيلها وفق منظوره الفني لا وفق حصولها في سياق تاريخي. وبهذا المعنى، تكمل الرواية التاريخ على طريقتها وتعيد ترتيب التفاصيل فيما يُعنى هو بالخطوط العريضة العامة. وهذا ما يفعله الروائي العراقي جاسم الرصيف في روايته العاشرة «رؤوس الحرية المكيّسة» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر).

يرصد الرصيف كيفية وقوع الحرب على شريحة اجتماعية تمثّل القاع والهامش الاجتماعيين لمدينة بغداد، ويبين كيفية تعامل هذه الشريحة مع الحدث التاريخي الداهم/ الحرب، ويُحدد تموضعها بين سندان نظام استبدادي يحصي على الناس أنفاسهم ومطرقة حرب لا تبقي ولا تذر شنّت باسم تخليص الناس من هذا النظام. ويكون على شخصيات الرواية أن تهرب من «دلفة» النظام الى مزراب الحرب.

تدور أحداث الرواية، عشية اندلاع الحرب، في حيٍّ هامشي عند أحد أبواب المدينة، هو حي الثالولة. واذا كانت الثالولة في اللغة هي الخراج الصلب الناتئ من الجسد، فإن هذا المعنى اللغوي يناسب الوظيفة الروائية لحيٍّ مبنيٍّ من الصفيح والطين يحتضن الفقراء والمهمشين والمهرّبين والخارجين على القانون والمطلوبين من النظام. ويتمخض السرد عن عيوب خطيرة في الاستعداد للحرب ترتبت عليها نتائج كارثية. فانطلاقاً من حي الثالولة نموذجاً، تُبرز الرواية: النقص في التسليح، والنقص في التدريب ، وعدم وضع الرجل المناسب في المكان المناسب ، وتخلّي المسؤولين عن الجنود (الشيخ بعيو مع زوجاته، الشيخ قندرة ركب هدايا الرئيس واختفى)، ورزوح الناس تحت وطأة الخوف والفقر والحصار واستبداد النظام...

وعلى رغم ذلك، كان ثمة تضامن اجتماعي يشدّ أهل الحي بعضهم الى بعض. وكان ثمة مستغلّون للحرب يكدّسون المال بوسائل غير مشروعة. وهكذا، فشخصيات الرواية هي ضحايا النظام واستبداده من جهة، وضحايا الحرب من جهة ثانية. ولكلِّ شخصية همُّها الخاص الناجم عن الهم العام أو المرتبط به بطريقة أو بأخرى. ففي مثل هذا الحي، وفي ظل ذلك النظام، العام هو الذي يُحدّد الخاص ويتحكم به.

على أنه يمكن التمييز بين نوعين من الشخصيات في الرواية، نوع الضحايا الذي تنضوي تحته معظم الشخصيات ويقع عليه الفقر والحصار والقهر والقتل والنفي والمطاردة والاعتقال والتعذيب، ومن هذا النوع ستنبثق عمليات المقاومة، وشخصيات هذا النوع تراجيدية لكل منها مأساتها، لكنها تصمد وتصبر وتتحمل وتصقلها الأحداث، فتتحول من شخصيات معطّلة الدور ومعلقة المصير الى شخصيات تأخذ بقرارها وتبدأ الإمساك بمصيرها. وهكذا، يتحوّل زمن من شاب غرّ لا يعرف استعمال السلاح ويخيفه نباح كلب الى منخرط في أعمال المقاومة بعد مروره بتجربة الاعتقال والتعذيب، ويتحوّل البدراني من مطلوب ومنفيٍّ في بلده الى لسان الحي يساعد أهله ويصطحبهم للمراجعة بشأن أبنائهم المعتقلين، والعضباء الأرملة التي تعيل أسرتها تتحوّل الى رمز للصبر والقدرة على التحمل...

أما النوع الآخر من الشخصيات فهو ذلك الذي يعيش على آلام الآخرين ويستغل الحرب لممارسة التهريب والتجارة غير المشروعة وارتكاب الموبقات ولا يتورّع عن التجسّس والعمالة للمحتل. ويمثله في الرواية كاشان وكاكا صالح والمخضرم. ولعل أسماء هذه الشخصيات تلمح الى شريحة معينة من الشعب العراقي.

ولعل المشهد الأخير الذي يختتم به الكاتب روايته، بعناصره المتمثلة بتشييع أحد عشر شهيداً وتحليق طوافتين فوق المقبرة ورشق الأطفال لهما بالحجارة وحضور مسلحين ملثمين التشييع، يشكل مؤشراً إلى استمرار المقاومة.

يقسم جاسم الرصيف روايته الى خمسة عناوين داخلية، أربعة منها أسماء شخصيات، والخامس هو اسم الحي الذي تدور فيه الأحداث. وهذه العناوين تتكرر وفق متواليات مختلفة. وفي مقاربة احصائية لهذه العناوين يتبين ان عنوان «الثالولة» هو الأكثر تكراراً بحيث يرد 57 مرة ويشكل حضوره نسبة 33.5 في المئة من مجمل العناوين ما يعني أن «الثالولة»/ الحي هي الشخصية الرئيسية في الرواية. واذا اعتبرنا ان هذه الشخصية مضافاً اليها شخصيات زمن والبدراني والعضباء التي تعبّر عن قيم ايجابية وتحضر بنسبة 83 في المئة من العناوين الداخلية، وأن كاشان التي تعبر عن قيم سلبية وتحضر بنسبة 17 في المئة نستنتج أن الرواية هي رواية ايجابية من حيث العناوين التي تطغى عليها والقيم التي تمثلها.

على أن السرد الذي كان ينتقل من عنوان الى آخر وفق نسب محددة، كان في الوقت نفسه يترجّح بين زمنين اثنين، هما زمن الوقائع وزمن الذكريات. يغطي الأول حكايات زمن والثالولة وكاشان والعضباء، وينتقل من حكاية الى أخرى ليقدم يوميات الحرب على العراق من خلال حي الثالولة وشخصياته، ويتم السرد فيه بصيغة الغائب على لسان الراوي العليم. وهنا، يبني الروائي نصّه في اطار جدلية الظهور والاختفاء لخيوط السرد ويجدل بهذه العملية حبل السرد المتصل بالوقائع.

أما زمن الذكريات فيغطي حكاية البدراني في رحلة فراره من القرية هرباً من بطش النظام مروراً بنجاته من موت محتَّم لدى محاولته الخروج من العراق مع آخرين وصولاً الى عودته الى حي الثالولة ليعيش بهوية مزوّدة خوفاً من أعين النظام. وهذا الزمن أقصر بكثير من زمن الوقائع، فحضور عنوان «البدراني» يشكل 15.8 في المئة من عناوين الرواية. واذا كان زمن الوقائع يتناول الحرب وانعكاسها على الأماكن والشخصيات وأنماط العيش، فإن زمن الذكريات يتناول استبداد النظام وبطشه بكل من تسوِّل له نفسه مجرد التفكير بالمعارضة. وكأن الاستبداد والاحتلال وجهان لعملة واحدة. ويأتي استخدام الكاتب صيغة المتكلم في هذا الخيط من السرد لينسجم مع طبيعة الذكريات التي يطغى عليها الطابع الذاتي. ولعلّ قصر خيط الذكريات في الرواية مقارنةً بالوقائع يومئ الى أن الحاضر المثقل بالاحتلال وتداعياته هو الحيّز الأكبر من المشهد العراقي على رغم ان الجزء الأصغر المخصّص للذكريات السود يأتي مكمّلاً لهذا الحيِّز.

ان انتقال الكاتب بين العناوين الداخلية المختلفة جعله يروي الواقعة الواحدة أكثر من مرة، ومن المنظور نفسه، ما أسقطه في التكرار الذي لا يضيف جديداً الى المشهد، كواقعة اطلاق سراح دليو التي وردت تحت عنواني «الثالولة» و «العضباء».

بلغةٍ يغلب فيها السرد على الحوار، ويتوشّح فيها التقرير بشيء من التصوير، ويخفّف من موضوعيتها بعض الكاريكاتور، ويتجاور فيها معجما الحياة والموت، يصوغ جاسم الرصيف روايته الجديدة، ويمزق الأكياس عن رؤوس الحرية.

10.15.2006

في النثر والنثرية . محمد خريف


في النثر والنثرية (7) ... محمد خريف
التاريخ: الخميس 17 فبراير 2005
الموضوع: نقد

التّرقيم / المشهد .... رواية الحرب / حرب الرّواية

- نثريّة التّرقيم في مرافئ الجليد لمحمد الجابلّي (1)

الرّقم علامة لغويّة شأنه شأن أي دالّ. والأرقام لها دوالّ منها ما هو مترسّخ أو متمكّن من معان دون أخرى ، والرقم 1 كالرقم 7 والرقم 100 والمليون والبليار و 1000 يكاد أن ينحصر بالنثّر في سجن الدّلالة المحددة بمعاني الكثرة والتبرك تنفيذا لحتمية الاستعمال عصا السلطة الثقافية والسياسية والأسطورية إلا أن النثرية باعتبارها فعل خلخلة وفك الصرامة ، صرامة الاعتقاد ، جعلت من الأرقام فرصة تهميش وانفتاح على دوالّ أخرى ممكنة للترقيم تحرّر الرّقم ممّا كبّله من قيود الاستعارة المتمكنة التي يصبح فيها العدد3 أو 7 متحكّما في الحاضر والمستقبل بما يرشّحه الذّهن للتقديس، تقديس الهيمنة التي يتعدّى تأثيرها من الذّهن إلى اليد . والتّرقيم يشمل الأرقام الفرديّة والزوجية كما يشمل النّسب في الفوز أو الخسران وحتى السنوات الأشهر الأيام.

والخطاب الرّوائي الحديث لم يخل من التذرّع بالتّرقيم وتدبير أمره إمّا على وجه النثر أي التوثيق مجاراة للخطاب السائد أو النثريّة أي القلع على وجه التناصّ بفعل التحّي والتّجاوز.
ولعلّ الترقيم في مرافئ الجليد لمحمد الحابلي من الظواهر النّثرية المفيدة التي تستقطب الاهتمام "وتضاءل مبتعدا واختفى بسرعة شبح تأملت رقم الهاتف الإيطالي014-512 717 بدت لك سلسلة من الصدف العمياء توجه حياتك بأكملها رحلة 717 ورقم الهاتف في أرض قصية يبدأ ب 717!!" (ص33)

الرقم حيثما وجهته وجهك باعتبارك رحلة بأكملها وقد لا تخفى نثرية الرقم واحد محاطا بسبعة على اليمين وسبعة على اليسار..

"تجاوز "جون" حاجز الشرطة وقصد الطائرة ومضخمات الصوت تردد (الرحلة 717 إلى روما- شركة الطيران البولونية ترحب بكم وتتمنى لكم رحلة هادئة على طائرة البوينغ 727." (ص34)

والرّاوي واع بما لا يدعو للشك بأن هذا الترقيم لم يكن وليد الصدفة "أصابك هلع لا يوصف حين انتبهت لرقم المقعد الذي تجلس فيه رقم 717 وبدا لك أن الصدف لا يمكن أن تكون بهذا التسلسل وأن الأسباب الكامنة التي لا نعلمها هي التي تخط كل شيء... انتبهت لهذا الرقم الذي يتكرر بشكل ملح غريب الطائرة 727 ورقم الرحلة 717 ثم رقم المقعد وبداية رقم الهاتف في مكان قصي... ذكرك رقم بعوالم الغيب لأن الآلهة مغرمة به لأسباب يجهلها الإنسان" (ص35)

الترقيم لم يكن بظاهرة جديدة في الأدب العربي إذ هو في الشعر كما في النثر لها دلالات سياقية مختلفة ومن الأرقام المتواترة في النصوص الأدبية العربية المائة والألف والأربعة وغيرها كالثلاثة والشهر.

والتّرقيم في مرافئ الجليد يحضر نصا ومنصوصا عليه أي بلغة النقد الروائي الحديث خبرا وخطابا بمعنى الرمز والحيثيات. الرقم سلسلة حاضرة أرقاما بالحرف اللاتيني خطابها من الصدف العمياء توجه حياتك بأكملها وموجه الحياة أليس قائدا . إذن تغيرت دلالة الرقم من التعبير عن معنى التمثيل أو القدسية إلى معنى التحكم في رقاب الناس أي في حياتهم وهكذا يصبح الترقيم من هذه الناحية أسلوبا في التعبير عن موقف إيديولوجي راهن يصعب التعبير عنه صراحة فيصير الترقيم تعبيرة نضال اندرجت فيها الرواية، الرواية المقموعة في الداخل :
" أصابك هلع لا يوصف حين انتبهت لرقم المقعد الذي تجلس فيه رقم717 وبدا لك أن الصدف لا يمكن أن تكون بهذا التسلسل وأن الأسباب الكامنة التي لا نعلمها هي التي تخط كل شيء..."

والنثر في مرافئ الجليد سيد الموقف قائم بشكل لافت في كامل الرواية وقرائنه الملاحظة والتحليل والتفسير وصولا إلى الاستنتاج فيقول في الرقم 7 في أسلوب تعليمي:
"- لاحظ أننا نحن نرسمه نحن والهنود بشكل خطين يلتقيان في القاعدة وينفر جان في القمة 7 فهو رمز المطلق واحتضان اللانهائي في حين ترسمونه انتم بشكل يوحي بالحدود والرواية (هكذا في الطبع) والانغلاق وكان أجدادي البابليون يجعلونه رمزا لمجموعة الدب الأكبر والدب الأصغر في علم الفلك ثم ورث عنا اليونانيون الرمز فسموه مجموعة الثريا...." (ص36)

ويستطرد الراوي في هذا المبحث التاريخي بقطع النظر عن مرجعياته التأويلية إلى أن ينتهي إلى استنتاج أو خلاصة لا تختلف عن التفسير السائد المنتظر "تأمل الرقم المنحون على حافة المقعد فبدا له أن شكل الحرف 7 فيه انغلاق فهو محدود ومعقوف ينطوي على زاويتين حادتين في حين أن الرقم 1 فيه انسياب يوحي بالمطلق والثبات سبعتان بينهما واحد متوحد متكبر يجلس بين أسطورتين على عرشه الفخم يلتفت إلى الشرق فيلفاه تائها في سبع سماوات ويسأل عن الأرض الثامنة... فيضحك الواحد سبحانه ثم تأخذه سنة طولها دهور والملائكة من حوله خفافا في حين ينصرف أهل الجنة المخلدون إلى نحر سبع بقرات سمان قربانا طاهرا..." (ص37)

نثر الترقيم يكاد لا يختلف عن نثر المقال الخاص بالعدد 7 فلا يفاجئك بتفسير غير منتظر تخلع منك ما ترسب فيك من نثر القص، قص المقولات الموروثة الجاهزة كما يفعل كونديرا في كتاب الضحك والنسيان لولا هذا الخروج بالألفاظ عن دلالاتها المترسّبة إلى دلالات نقيض في قوله "سنة طواها دهور" أو في سرد قصة الواحد الضاحك سبحانه حيث تطوع المحاكاة الساخرة للنثرية التي يتقد لظاها حسب رأيي لا في نثر الترقيم بل في نثرية المشهد الجنسي الفوضوي الملتهب حبا دمويا "وتجولت يدا "مستر هاردي" في جسد "كريستين" ببطء وبدا لك أن الجسد يلين أو يتلوى كتمثال مطاطي ثم أصابها ما يشبه الخدر فتهالكت متداعية في حضن "مستر هاردي" فحملها بين يديه ومددها على طاولة بيضاء ومسح كامل جسدها بيده وكأنه منوم ثم جال حول الجسد يتفحصه وكأنه جراح ووقف اللحظات كالمنبهر ثم هوى على رقبتها بفم مفتوح خلته (هكذا في الطبع) يقبلها إلا انك رأيت الدماء نافرة حول شفتيه المرتعشين تمتصان بل تنهلان الدماء....." (ص113)

بمثل هذه النثرية العذبة يتقوض صرح النثر ولو على امتداد مسافة ورقية قصيرة سرعان ما يفيق الراوي بعد أن تأخذه سنة لا نوم يقظة قد تأخذه إلى ثقوب عاتمة لا تخلو من سراب البارقة فيعود إلى جادة النثر فيقول
" – لا يمكن أن يوجد الله وأمريكا معا "
أراد الكاتب أن يهذب قولها لكنه لم يجد صياغة أخرى تحمل وزر المعنى..(ص167)
وهل صياغة السرد جعلت لتحمل وزر المعنى وهل يعجز الراوي عن الصياغة أم أن الصياغة تخفف من ثقل المعنى أم تتحداه بنثرية اللامعني

أسئلة قد تطرحها هذه الرواية كما تطرح الطبعة القاهرية أسئلة حول الهدف أو الغاية من إهمال الإشارة إلى كل ما هو تونسي كالطبعة الأولى الصادرة في تونس مما يشرع لمحمد الجابلّي الإنخراط في فن التجريب الروائي وطريقه طويلة شاقة عذبة




- رواية الحرب حرب الرواية في "تراتيل الوأد" لجاسم الرصيف (2)

لا يزال نثر الرواية ملاذا باعتباره رواية حرب تقاوم الحرب رغم تخلي البعض من كتاب الرواية ونقادها عن هذا الرهان لما أفضت إليه بعض التجارب من عجز عن القيام بهذه المهمة. والرواية وإن كانت ولا تزال جنسا أدبيا ناشزا في الأدب العربي فإنها حظيت عند كبار المفكرين العرب بأهمية بالغة للتحول بالذهن العربي من ذهن الشعور بالكمال إلى الشعور بالنقص ، ولذا نرى مفكرا مثل الراحل إدوارد سعيد يحتفي أو يعبر عما تبشر به التجارب الروائية العربية الحديثة من رغبة في تحول تلك الذهنية وبنفس هذا التفاؤل. أقرا رواية "تراتيل الوأد" للروائي جاسم الرصيف .

الرواية ترصد بأسلوب فني مميز وقع حرب الخليج الثانية لحظة بلحظة على امتداد اثنين وأربعين يوما. وتميز الأسلوب أو طرافته يأتي من المراوحة بين أسلوب المذكرة أو اليومية في التاريخ باليوم والشهر والسنة والترتيب لأيام الحرب تلك ، وأسلوب المسرح في لوافت الشخصيات الساردة المتحاورة عن بعد وفق نفس روائي متعدد الأحداث المتباعدة والمتلاقية بالتذكر من ناحية أو الترهين من ناحية أخرى.

" الخميس
17 كانون الثاني 1991
اليوم الأول للحرب" (ص5)


" الأربعاء
اليوم الثاني والأربعون للحرب
27- شباط-1991" (ص306)

أليست هذه يومية أو كنش المذكرة ذلك الجنس الأدبي المعروف في الغرب بإحالته المباشرة على الواقع ، الواقع اليومي ، إلا أن لوافت اليومية خلب بهذه الشخصيات الحائزة مواقع الصدارة مثل "زيدان خلف" و "جواد خلف" و "أم نهاد" و "خلف القشعام" أو "أبو الأبرد البدراني" . هذه الشخصيات تمثل رحى الرواية في سردها التقليدي وقرائنه المضي والغيبة والراهن المتكلم في سردها التحديثي.

* زيدان خلف

أجفلت المرأة في الفراش عندما طرق علينا الإنفجار الأول والأبواب والشبابيك كلها ولم تحتضني متخابثة كما كانت تفعل في أيام قريبة مضت اعتدلت مذعورة حقا.
- بدأت !
قلت لها آسفا وأنا أبحث في ظلام الغرفة عن سجارة قمت بلف تبغها الرديء قبل أن أنام ودوى الانفجار الثاني قبل أن تسألني متظاهرة بالهدوء:- أحقا سنموت؟!.
ولم أرد لها.
كانت نبرة صوتها مخلصة مندفعة أكثر مما كنت قادرا على احتماله في تلك اللحظات مفعمة بضراعة تعتري المحتضر من أجل لحظة أخرى من الحياة سمعت الكثير منها في خنادق القتال في الحرب الماضية لذا شعرت بعجز مطلق عن الكلام." (ص5)

ألم تكن جملة الاستهلال الروائي في "تراتيل الوأد" سوى جملة نبض بالحياة تتحدى الوأد الجديد ، وأد الأنثى السائلة عن مصير الجمع لحظة الاحتضار لا المسؤولة بأي ذنب قتلت دون أن يرد عليها الأنا الذكر الحديث الذي يقدر إخلاصها ويفهم مشاعر حبها لحظة أخرى من الحياة. والعائق اللساني ناتج عن ربط إحساس الحاضر بإحساس الماضي والعكس بالعكس.

ويتواصل التصميم الروائ في جملة الاستهلال مواكبا الأحداث الطبيعية والعسكرية فيتحدث زياد خلف بلغة الراوي السارد عن الرياح والقاصفات الأميريكية والقشعام.

" الأحد
اليوم الثامن عشر للحرب
3- شباط-1991

* زياد خلف
كانت الرياح تضرب جدران الدار بعنف مطلقة صفيرا حادا في الحوش حتى أني خشيت أن تقتلع السقف الطيني أو ينهار جدار فجأة وكان القشعام يغط في نوم عميق وقد لاصقته عصاه....." إلى أن يقول "كانت القاصفات الأميريكية الإستراتيجية (بي52) والمدفعية البحرية من عيار (406) ملم تقصف الجيش في خنادق القتال وكل المدن التي تطالها إضافة عن صواريخ (كروز) ........ وأصبت بأرق مفاجئ تقلبت كثيرا في الفراش ولم أستطع النوم . كانت قوتنا الصاروخية قد ضربت (إسرائيل) و (الظهران) كنا نبادلهم الرعب بالرعب وكانت خشيتي الوحيدة من أجهزتهم الإليكترونية وأسلحتهم المتطورة التي لا نملك مثيلا لها . لم تكن معركة متكافئة قط . ثلاث وثلاثون دولة من بينها ثلاث دول (كبرى)..." (ص132).

مثل هذا السرد المتراوح بين الوصف الميداني والذكر والتذكر والتوقف للتعليق تشترك فيه شخصيات زياد خلف مع جواد خلف وأم نهاد "وظلت ذاكرتي تحتفظ بصوت إطلاقة نارية شقت سكون القرية بين زئيرين من صمت الرياح فترة طويلة. كان صوتها ناشزا حادا مثل معدن يحتك بعنف على معدن آخر.
لا أدري إن كنت واهمة أم أني سمعت هدير طائرات بعيدا. كنت أغلب النعاس والقلق وحكايات اللصوص التي راحت القرية تتناقلها. كثر الجياع قالوا وانتشرت الأمراض والبطالة الإجبارية التي خلقتها طائرات الأعداء باتت تعتصر الفقراء.
هل الفقراء وحدهم المرشحون لأن يكونوا لصوصا في أيام الجوع ؟" (ص135)

بمثل السرد الضارب في النثر تفيض الرواية بالبنى التحتية والفوقية التي لا تتحدث عنها وسائل الإعلام بالقدر الكافي أيام الحرب وهذه البنى تجسمها أخبار معروفة في روايات الحرب كالحديث عن انشغال الناس بأمور الحياة ولو تحت القصف مثل ممارسة الجنس وغيرها من الأمور التي تمارس أيام السلم في العادة

" * أبو الأبرد
بالهن من مخلوقات عجيبة! كانت الواحدة منهن تمرض يومين أو حتى ثلاثة بعد أن أفلحها ولكنها تعود لملاحقتي كقرادة شرهة لأمرضها ثانية وثالثة." (ص151)

وتمتزج مرارة الحكم بالإعدام بالشهوة المتبادلة في حكم (لو) "وبقيت أسلم رقبتي لستة أحكام بالإعدام لأية امرأة تشتهيني أو أشتهيها." (ص151)

ويتواصل الدفق السردي على إيقاع اليومية لوافتها شخصيات ساردة طورا ومسرودة طورا آخر إلى آخر مذكرة في الكتاب.
" الأربعاء
اليوم الثاني والأربعون للحرب
27 شباط – 1991" ( ص306)

في المذكرة استمرار لتأكيد فكرة قديمة متجدد ة أن الحياة وقوامها الجنس تتوصل بالرغم من الحرب وويلاتها وقرينة الحياة طقوس ممارسة الحب عند القطط بحرية.
" * زيدان خلف
أركبتني المرأة عربة جرار. ومرت طائرات الأعداء. فضحكت. تعكزت على جسدها الزجاجي الدافئ . في الأزقة التي خلت من البشر حيث تمارس القطط طقوس الحب بحرية لا مثيل لها. وهي تبتسم." (ص306)

بين الضحك المصرح به الغائم في كامل الرواية والابتسامة المفقودة العائدة تحد في انفتاح على سرد ذات تتأمل حصاد الرحلة ، رحلة من بقي على قيد الحياة يتعكز على من يتعكز عليه في صفحة واجمة بالتأمل والسؤال عن سبب بكاء الناس.

وكأني بالنثر يطفح إلى النثرية في حميمية الرحمة والأمان رحمة مياه الوادي وأمان الأرض الأبدي "كنت قذ ابتلعت حبة الزيتون الأخيرة مشتعلة. كبرت فيّ الآن. أردت أن أتعرى في الشارع. ماذا أقول للآتين؟ سألت.
أجابت. عاشقا كنت. رددت بصوت عال وأنا أضحك. عاشقا كنت. ولم تتغير رتابة الرتل من رفاقي في السلاح كانوا يمرون أبدا قادمين أو ذاهبين من جهة إلى جهة ما. فشعرت بالخجل. توقفت الحرب. لم أر نفسي بين الذاهبين أو القادمين في الرتل. كبرت حبة الزيتون فيّ. وكنت أحاول أن أتعرّى تكفيرا عن ذنب لم أقترفه وخطيئة لم تشوه دمي في عربة الجرار المزدحمة بالناجين من مجازر المدينة وطائرات الأعداء. وكان على (القشعام) أن يتعكز عليّ وأن يمنحني بندقيته لأطلق النار على تلك الصخرة اللعينة وهذا المطر الذي يحاول تفتيت رأسي عاشقا كنت. ورائحة النرجس تقتلني الآن. أريد حبا والمرأة حائرة بين فرح السلم وفزع (النذر) الذي كان عليّ أن أنفذه الآن. وحدها مياه الوادي ترحم جسدي من حماه وجذور القصب تمنحني أمان الأرض الأبدي. توقفت الحرب. علام تبكي الناس?!" (ص306)

أليست صفحة تعزف إيقاع أغنية الذات وفرحها الحزين بانتهاء الحرب دون أن تصرح المعزوفة بما يلقاه القارئ من أم نهاد.

" * أم نهاد
كنت محتارة بين فرحي المفاجئ بنهاية الحرب وحزني على ضحاياها" (ص307)

وتنتهي الحرب بخلف من ضحاياها هو الأنا الراوي الهنا الآن ليعلن عن بداية المعركة معركة الآن. وهكذا يرفض الأنا الذات الاستسلام واليأس وما المعركة إلا معركة الرواية التي تبدأ في نهايتها ولا معنى للبداية والنهاية في لغة الرواية التي تختلف حربها عن حرب القنابل والطائرات وهكذا خرج جاسم الرصيف بثمرة إبداعية تجعل الرواية فنا صعب المراس على عشاق الحرب هي لا ترثي ولا تؤبن ولا تعزي وإنما تقاوم على طريقتها وإن تخلت عن تمجيد البطولة والشعور بالكمال الموهوم والموؤودة يتسع لها قبر أبيها ولم يقترف في حقها ذنبا وصغيرة القتال كبيرة.
" * خلف القشعام
... وظل في وجه السماء متسع لكل الغيوم لذا سأبحث لك يا بني الآن عن إخوة وزوجة وأولاد وطعام وبندقية. الآن تبدأ معركتي" (ص308)

الهوامش:

(1) محمد حابلّي ، مرافئ الجليد ، ميريت الطبعة الأولى القاهرة 2004
(2) جاسم الرصيف ، تراتيل الوأد ، دار الفارس للنشر والتوزيع ، الطبعة العربية الأولى 2000

محمّد خريّف : كاتب وناقد تونسي
krfmohamed@yahoo.fr

9.02.2006

صورة جاسم الرصيف


???? ??????

7.29.2006

تجليات التجديد في رواية " أبجدية الموت حبّا ً " لجاسم الرصيف

تجليات التجديد في رواية "أبجدية الموت حبا" لجاسم الرصيف
للدكتور جميل حمداوي
jamilhamdaoui@yahoo.fr

تعد رواية( أبجدية الموت حبا) التي نشرتها المؤسسة العربية للدراسات والنشر( بيروت / لبنان) سنة 1991م من أهم الروايات التي كتبها الروائي العراقي الكبير جاسم الرصيف إلى جانب روايات أخرى : كالفصيل الثالث، و القعر، و خط أحمر، و حجابات الجحيم، و تراتيل الوأد، وثلاثاء الأحزان السعيدة، و مزاغل الخوف. وتتميز أبجدية الموت حبا أنها رواية تتناول تيمة الحرب العراقية الإيرانية بطريقة فنية جديدة تعتمد على التوازي السردي والمفارقات الزمنية. إذاً، ماهي مظاهر التجديد في هذه الرواية؟ وماهي الأبعاد المرجعية التي تحيل عليها هذه الرواية العراقية المعاصرة؟

تصور رواية( أبجدية الموت حبا) الحرب العراقية الإيرانية القذرة التي امتدت من 1980 إلى1988، وانتهت ميدانيا لصالح العراق. بيد أن الرواية تركز على فترة معينة ومكان معين. أي إن الرواية تصور الصراع العسكري حول منطقة الفاو التي تقع في جنوب العراق في السنة السادسة من عمر الحرب ، بعد أن استولى عليها الإيرانيون لموقعها الساحلي الاستراتيجي، ولم يسترجعها الجنود العراقيون إلا بعد معارك ضارية وحامية الوطيس.

وإذا تأملنا مضامين الرواية سنجد تداخلا في الأحداث وتقاطعا سرديا نتيجة اعتماد الكاتب على تقنية التقطيع السينمائي والمونتاج في تركيب اللوحات المفككة بنيويا وعضويا؛ ولكنها متكاملة من حيث الدلالة والرؤية الفنية على غرار رواية الوشم للروائي العراقي عبد الرحمن مجيد الربيعي، وبدر زمانه لمبارك ربيع الروائي المغربي...

هذا، وتضم رواية جاسم الرصيف ثلاث لوحات دلالية متكاملة:
1. لوحة المجند الذي سيقاد قهرا إلى حرب يائسة ومظلمة بدون أن يفهم أهدافها وفلسفتها بعد ضياعه الوجودي و فشله في دراسته وغضب والده عليه. وسيخوض تجربة القتال مع مجموعة من رفاقه الشباب، وسيتعلم بسرعة أبجدية الحرب والموت، وأوليات الانضباط العسكري، ومتطلبات التدريب القاسي الذي كان يفرضه عليه عريفه، وكل هذا من أجل استرجاع منطقة الفاو بأقصى سرعة. وقد استطاع هذا المجند المستجد في الأخير أن يتكيف مع واقع الموت بصبره الجميل وثباته الكبير إلى أن حقق النصر ورفع راية وطنه في تربة الفاو. وبذلك حول كينونته الضائعة إلى إنجاز وجودي هادف.

2. لوحة المرأة المجندة التي اختارت النضال والاستشهاد مع مجموعة من المقاتلين للدفاع عن الفاو لطرد الطغمة العسكرية الإيرانية المحتلة. بيد أن استبسال هذه المرأة المقاومة في الحرب سيتحول إلى أسر واعتقال واستنطاق وتعذيب من قبل أعدائها الذين حولوا جسدها إلى مرتع للاشتهاء و برك من الدماء المسالة إلى أن رأت نصرهم يتحول إلى هزيمة نكراء.

3. لوحة ذاكرة الفاو في تاريخها الممتد في الزمان، وما كان يعانيه الأهل من ظلم وقهر واستعباد وفقر وجوع ومرض. إنها أرض التناقضات والقيم المنحطة. كما أنها مرفأ المقاومة والنضال ومجابهة المعتدين الغزاة، و الأتراك المتسلطين المستبدين، ومقاومة الإنجليز المتوحشين الذي كانوا يستهدفون نهب ثروات المنطقة.

فالرواية – إذاً- عبارة عن مجموعة من اللوحات المتكاملة التي تتداخل في المتن القصصي والحكائي تقاطعا وتفاعلا لتشكيل رؤية الكاتب للعالم القائمة على نبذ الحرب و العدوان والاحتلال. وتندرج الرواية أيضا ضمن الرواية الحربية التي جسدت أهوال الحرب بين النصر والهزيمة على غرار مجموعة من الروايات العربية الحديثة كـــ (الزيني بركات) لجمال الغيطاني، و(رفقة السلاح والقمر) لمبارك ربيع، و(يحدث في مصر الآن) ليوسف القعيد، و(رجال وجبال ورصاص) و(المحاصرون) لفؤاد حجازي، و(المصير) لحسن محسب، و(أبناء الصمت) لمجيد طوبيا...

ويعني هذا أن تيمة الحرب تيمة جديدة في الرواية العربية الحديثة والمعاصرة، ولاسيما الحرب العراقية الإيرانية التي حصدت كثيرا من الأرواح، وزهقت فيها كثير من النفوس، وقتل فيها الكثير من الشباب ظلما وعدوانا، وذلك لأسباب واهية عقائدية وإيديولوجية. ومن ثم، ستبقى هذه الحرب في تاريخ الأمة العربية والإسلامية حربا قذرة كحرب البسوس أوحرب داحس والغبراء، و ستظل عارا و خيبة وفتنة كبرى وجاهلية لا مثيل لها في التاريخ المعاصر.

وتتسم شخصيات الرواية بالضياع وانعدام الهوية واستلابها التشييئي، والدليل على ذلك فقدانها لأسمائها الإنسانية ، ومبادئ كينونتها الوجودية، وتعويضها بالضمائر التي تحيل على كائنات ورقية مجهولة كشخصيات الرواية الجديدة ( كافكا- محمد عزالدين التازي- عمر والقاضي...). كما أن الأمكنة في الرواية ذات طابع عدواني توحي بالرعب والقهر والخوف والموت، إنها فضاءات سوداوية وأمكنة مأساوية جنائزية( المركز- ساحات التدريب- الخنادق- الساتر- البرك الموحلة- الميدان...).

وعلى مستوى المنظور السردي نلاحظ تعدد الرؤى السردية( الرؤية الداخلية- الرؤية من الخلف...)، وتعدد الضمائر السردية( ضمير التكلم، وضمير الغائب...)، وتعدد الرواة( الراوي المجند- الراوية المجندة- سارد ذاكرة الفاو...)،وتعدد الأساليب( السرد والحوار والمنولوج...)، وتعدد اللغات تهجينا وأسلبة( الفصحى القديمة والحديثة، العراقية، التركية، الإنجليزية...)، وتعدد الخطابات( خطاب التاريخ، الخطاب الفانطاستيكي الذي يتمثل في تحول الكائنات البشرية إلى حيوانات فظيعة، الخطاب السياسي...). وهذا التعدد يجعل من هذه الرواية رواية بوليفونية( متعددة الأصوات) بمفهوم الناقد الروسي ميخائيل باختين. أما البنية الزمنية فهي تتسم بالمفارقة والارتباك الناتج عن التقاطع الزمني وتداخل الماضي والحاضر وتوازي الإيقاع السردي بسبب تقطيع اللوحات بطريقة سينمائية لإرباك القارئ وتخييب أفق انتظاره. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مدى الكفاءة الروائية التي يمتلكها جاسم الرصيف، ومدى قدرته على تطويع الفن الروائي، وكثرة انفتاحه على النصوص الروائية الجديدة في الثقافتين: العربية والغربية قراءة وتمثلا، وانفتاحه على الخطاب النقدي المعاصر اطلاعا واستيعابا.

وتمتاز اللغة الروائية بطابعها التقني التوثيقي لاستخدام الكاتب لمعجم الحرب كثيرا( الدبابة، الهاون، الرشاش، الخنادق، مركز التدريب، الخوذة، الساتر الحربين العريف، الفصيل...)، كما تمتاز اللغة بالجزالة والقوة التعبيرية واستعمال اللهجة العراقية التي ساهمت في تبيئة النص وأضفت على النص نوعا من الرصانة ومتانة السبك والإغراب اللغوي، والتصوير التقريري الموضوعي الذي يخلو من الإنشائية الشاعرية والمستنسخات النصية .

ومرجعيا، يدافع الكاتب عن أطروحة العراق العسكرية على الرغم مما يقال عن قذارة هذه الحرب الحمقاء التي أودت بالكثير من الأبرياء بسبب التعصب الأعمى وانعدام الديمقراطية وتفشي الاستبداد في البلدين المتحاربين. وكنت أنتظر من الكاتب أن يرفض هذه الحرب، وأن يستنكرها كما أشار إلى ذلك في بداية الرواية؛ لأنها حرب عمياء تعبر عن غطرسة الحكام وتجبرهم، فلا نصر فيها ولاهزيمة. بيد أن الكاتب انحاز إلى جانب العراق لعاطفته الوطنية الفطرية، ولم يذكر دواعي هذه الحرب ويشخصها بدقة ويعبر عنها بصدق؛ لأننا نعرف جميعا أن العراق هي التي بدأت العدوان، وفرضت حربا شنعاء على إيران لخدمة مصالح الغرب و عملائه المتخاذلين.

وأخيرا، تعتبر رواية أبجدية الموت حبا رواية جديدة في أدبنا العربي الحديث والمعاصر إن مضمونا وإن شكلا؛ لأن الكاتب تناول تيمة الحرب بطريقة معبرة موحية تجمع بين التوثيق الصحفي والانطباعية الإنسانية الحزينة التي يشوبها في نهاية النص نوع من التفاؤل بالنصر والحياة. واستخدم في تعبيره عن ضراوة الحرب الجنائزية أسلوب التوازي السردي والمفارقة الزمنية والتقطيع السينمائي وتقنيات الرواية البوليفونية لخلق نص حداثي يتسم بالتجريب والتجديد والاستفادة من تقنيات الرواية الغربية والسرد العربي القديم.
وأقول بكل صراحة : إن جاسم الرصيف لروائي عربي كبير في مجال الكتابة السردية، ومن القمم الروائية التي ينبغي أن ننصت إليها جيدا وأن نهتم بها كثيرا. كما يعد من الأقلام الجريئة التي صورت الحرب العراقية الإيرانية واستبداد النظام العراقي الحاكم تصويرا صادقا موثقا بطريقة فنية رائعة وجميلة.

الدكتور جميل حمداوي .( عمرو) . المغرب .//
Jamil Hamdaoui (Amar) /Jamilhamdaoui@yahoo.fr

تراتيل الوأد رواية سوريالية .. الدكتورة مي أحمد

تراتيل الوأد رواية سوريالية لجاسم الرصيف

د . مــــي أحمد
Friday, 28 July 2006

النسخة التي بين يدي من الرواية هي طبعتها الثالثة الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت 2004 . غير ان غلافها الاخير يقول انها صدرت في طبعتها الاولى عام 1992 وفازت بجائزة الرواية الاولى في العام 1994
ولست أدري هل كان كل ذلك داخل العراق ام خارجه ..... فأنا اعرف ان هذه الرواية قد أحالت مؤلفها جاسم الرصيف الى السجن لمدة عشر سنوات ومنذ ذلك التاريخ لم أعد اعرف عن الرجل الا نتفا من الاخبار من هنا وهناك ... الحمد لله على كل حال وأي حال .
سأقدم قراءتي لهذه الرواية التي تقع في 310 صفحة من القطع المتوسط ... وليسمح لي القاريء الكريم فهي قراءة مليئة باسقاطاتي الذاتية فقد كنت في الموصل أثناء أحداث هذه الرواية ... وفيما بعد في بغداد كي يكتمل مشهد المأساة أمام عيني .

جاسم الرصيف :
قبل اسبوع كتبت ايميلا لصديق شاعر معروف جدا يقيم حتى الان في مدينة الموصل ، سألته ان يحكي لي كل ما يعرف عن جاسم الرصيف ... ومن ضمن ما كتبه لي الصديق الذي اتحفظ على ذكر اسمه هذه الفقرات التي اقتطعها لكم كونها ستدخل في قلب رواية تراتيل الوأد :
(( ولد جاسم الرصيف في قرية ( الهرم ) التابعة لناحية ( حمام العليل ) من محافظة نينوى ، ثم انتقلت عائلته الى (الموصل )، بسبب شح ألأمطار وضآلة محاصيل الحنطة والشعير التي أدمن زراعتها أبوه عن جده عن أبيه ، ودخل جاسم المدرسة حتى تخرج من الثانوية . و كان طالبا غاية في المشاكسات مع المدرسين وحتى الطلاب ، ربما لأنه ألإبن المدلل كونه الذكرالوحيد من بين خمس أخوات أصغر منه ، وربما لأسباب أخرى قد يمر ذكرها لاحقا
.....................

لم تنقطع علاقتهم بالقرية قط ، ولحد ألآن ، وهذه القرية التي تبعد عن ( الموصل ) ثلاثين كيلومترا في أبعد بيوتها عن المدينة ، وتبعد مجرد كيلو مترين عن أهم شارع من شوراع العراق : طريق الموصل ــ بغداد .
مازالت القرية ( حتى 2006 ) تكتال مياه الشرب في الشتاء من بركة كبيرة تجاورها ، يدعوها أهل الهرم ( الخبرة !! ) الملآنة بدعاميص الضفادع وأنواع شتى من الحشرات ، يسخر أهل الهرم من تحذيرات المتعلمين من داعيمصها وحشراتها فيصفونها ساخرين : لحوم غير ضارة في مياه الطبخ والشرب ، ولا بأس من أكلها ! .
......................
ينتمي جاسم الرصيف الى عشيرة ( السادة البوبدران ) الذين يعودون في نسبهم إلى ( بني هاشم ) ، وهذه العشيرة تمتد من شمال محافظة نينوى إلى سامراء والبصرة جنوبا وإلى دير الزور والرقة والحسكة ودمشق في سوريا غربا وألأردن والسعودية ودول الخليج العربي ألأخرى .
كان جده ( خلف حسين عبد الله الرصيف البدراني ) قد نال إرثا من ذويه في دير الزور مما يؤكد لي أنهم قدموا من هناك الى العراق قبل ( سايكس ــ بيكو ) يوم كانت الأرض العربية لمن يسكنها أيا كان ، كما أن جده وعمه ألأكبر محمود ووالده قد ذهبوا لزيارة أقاربهم في دير الزور عشرات المرات على ظهور الخيل .
من أبرز ما علمته العائلة ( الرصيف ) لابنها جاسم ، حب الصيد والرماية .
الشجاعة من أشهر ما هو معروف عن عائلة جاسم ، ولذلك تحاشت العوائل ألأخرى المشاكل معهم ، بعد أن أسس (خلف الرصيف ) للعائلة إرثا عريضا في هذا المجال مذ كان شابا أيام العهد العثماني وضربت المجاعة قرانا في الموصل فترة طويلة فراح ( خلف الرصيف ) يغير على ثكنات الجندرمة ألأتراك ويسرق من مخازنها الطعام لعائلته وعوائل أولاد عمه في نفس الوقت ، وقد خاض عدة معارك مع الجندرمة التركية بسبب سطواته تلك ، خاصة وأن رجالا آخرين من أولاد عمومته قد إنضموا إليه ، فصدرت بحقه ثلاثة أحكام بالاعدام لم يعرها بالا وهو يردد ، ومازلت أتذكر ذلك عنه : مادمت طير برية فلن أخاف أحدا غير الله !! )) .

معنى كلمة الوأد :

حين تفتح القاموس المحيط ستجد من معاني كلمة الوأد
# دفن البنات المولودات وهن حيات كما كان يحدث في زمن الجاهلية
# الصوت المنبعث عن انهيار كيان ضخم
أما تراتيل الوأد ... فهي هدير الطائرات القاصفة وأصوات الانفجارات وصراخ البشر الذي صاحب انهيار كيان ضخم .. قد يكون هذا الكيان هو العراق ... لكني بصورة أدق أراه انهيار كيان العراقي ... كما ستحصل في نهاية الرواية حادثة وأد لبنت يقل عمرها عن سنة .

ثيمة الرواية :

الثيمة أو جوهر الفكرة التي أسست الرواية تريد القول : ( الحدث كان أكبر منا لذلك انهارت صورة المثال في أعيننا .. فنكصنا ) .
والنكوص كما سنرى سيكون نكوصا فرديا .. ونكوصا اجتماعيا .
ما معنى النكوص ؟

في مفاهيم علم النفس ومفاهيم علم الاجتماع ... ينشأ الانسان صغيرا ثم يكبر، لكل مرحلة عمرية من حياته نوع من السلوك والاعتماد على الغير ، حين يكون الطفل رضيعا فهو يعتمد على الغير تماما وحين لا يلبي له الغير متطلباته فهو يبدا بالبكاء .
كلما كبر هذا الرضيع قل اعتماده على الغير وقل بكاؤه .. الى ان يصير رجلا بالغا كاملا قادرا على تصريف كل أموره بنفسه دون تذمر أو شكوى حتى لو كان واقع الحال يتطلب ذلك .

يحصل في حياة البعض منا أن تقع لهم مشاكل أكبر من طاقتهم أو قدرتهم على المواجهة أو التحمل ، عندها يتخذ بعض البشر من النكوص ميكانزم دفاعي ليساعدهم على المقاومة والاستمرار ... فينكصون الى مرحلة عمرية أقل ، حين كانوا يطلبون العون من الغير ، الأب أو الاخوة أو الاهل والاصدقاء ... وهذا ليس عيبا اذا كان لفترة محدودة جدا .. لكن بعض الافراد تكون مشاكلهم كبيرة وحادة لا يستطيعون مواجهتها حتى بعد انتهاء أزمتها ، عندها يتقوقعون داخل حالة النكوص ولا يغادرونها بعد ذلك .. عندها يتحول النكوص الى حالة نفسية أو مرض نفسي .

أما النكوص الاجتماعي فمصيبته أكبر وأعم وأشمل . المجتمع الانساني يعيش مثل كائن حي يولد طفلا ثم يكبر وتعتريه عوارض عدة . حين ينمو المجتمع سليما فانه يمارس آلياته في التفكير والتعلم وممارسة الحياة والقيم بشكل طبيعي ، والانسان بطبعه محب للتغيير والتطور .

تحصل في بعض المجتمعات حركات لنبذ القديم واحلال الجديد محله في التفكير واسلوب الحياة ، ومن سوء حظ ذلك المجتمع المعين ، أن تترافق مع حركته التجديدية آفة لا علاقة لها بالتجديد ، فيضان أو غزو جراد ، أو حرب لسبب عادل أو غير عادل ، هذه الآفات تصيب المجتمع بأذى فادح يكون غير قادر لاعلى رده .... ولاعلى تحمله .. عندها ينكص المجتمع .

لكن المجتمع لا أب له أو اخوة أو أصدقاء ... اذن كيف سيكون نكوصه ؟

حين ينكص المجتمع .. فانه يتخلى على الفور عن جديده في التفكير واسلوب الحياة .. ويعود ليس الى القديم .. بل الى ما هو أقدم منه ، فيحاكيه في الافكار واسلوب الحياة .. لا بل أحيانا حتى في طراز الملابس .. ألم تلاحظوا كم الرجال الذين عادوا الآن الى ارتداء الدشداشة والعباية مع انهم الى ما قبل سنوات قليلة كانوا يرتدون الزي الرجالي المتعارف عليه عالميا ؟
ولن نتحدث عن الحجاب مخافة أن تدخلونا في متاهات نسائية اذا كان لها اول فليس لها آخر .
وليت الامور توقفت عند هذا ... فالناكصون الأوائل سيبدأون بمحاربة من لم يعتريهم النكوص باعتبارهم خارجين على اجماع الملة ... وتستمر العملية الى ان يندحر المجتمع بأكمله ... فكريا وثقافيا وحضاريا .. قبل أي أي شيء آخر .

قصة الرواية :

القصة التي تدور بين ارجائها أحداث رواية تراتيل الوأد هي قصة عائلة مكونة من أب وثلاثة من أبنائه أثناء فترة العمليات العسكرية التي صاحبت إخراج القوات العراقية من الكويت عام 1991 .

حبكة الرواية :

حبكة الرواية حبكة هشة فهي ليست صراع بين قوتين حتى لو كان بينهما أي مقدار من الفرق في القوة .
بل هي هذيانات أو ( تراتيل ) تتداخل فيها الاصوات والكلمات والصور الى الحد الذي ترى وتسمع فيه كل شيء ، لكنك في نفس الوقت لاترى شيئا ولا تسمع شيئا .. لأن فوضى الحرب تخلط الحابل بالنابل .

صورة حبكة الرواية تشبه بالضبط صورة حجر ضخم يقذف بقوة الى بركة ماء محيلا إياها الى رذاذ متناثر في كل الإتجاهات حيث لارابط ولا سلطة ولا قيمة . عندها يقع الانهيار .

الاسلوب السردي للرواية :

اعتمد جاسم الرصيف على اسلوب كتابة يوميات الحرب يوما بيوم منذ يومها الاول 17 كانون الثاني 1991 ولغاية يوم وقف العمليات العسكرية للحرب في 27 شباط 1991 .
غير انه اتبع آلية مضافة وهي أن تقوم الشخصيات الرئيسة في الرواية بسرد الاحداث كل من وجهة نظرها .. وهذا بقدر ما يكشف لنا أمورا كنا نجهلها .. بقدر ما يضعنا أمام حيرة كبيرة اذ لاندري معها من نصدق ومن نكذب .
كنت قد تعرفت على هذه الآلية في الكتابة عند الكاتب الياباني راينوساكي أكوتاجوا في رائعته راشامون التي لا تقل كآبة ومأساوية وغموضا عن تراتيل الوأد عند جاسم الرصيف .

الرموز في الرواية :

بنت الجن ، رصاصة الشيش خان ذات الست خناجر ، البرتاوات ، الثعالب ، الكلاب ، الغزلان ، الانكليز ، العثمانيون ، مقبرة الطعس .
كلها كانت رموزا أحسن جاسم الرصيف استعمالها في الرواية محولا اياها الى جرح ممض عصي على الشفاء .

لغة الرواية :

لغة الرواية كانت من المحكي اليومي في أي مكان من العراق . عدا لغة خلف القشعام ، فقد كانت لغة محملة بالرموز والالغاز ويتداخل بها عقل ولسان ثمانية شخصيات تحمل اسم القشعام .
استطاعت هذه اللغة التي واربها جاسم الرصيف بين البوح والكتمان أن تسمي لنا كل شيء دون أن تقول شيئا .. كانت تتكلم في عقولنا .. دون أن تتكلم بلسانها ، وحين يصير ما في ذهنك خطرا وتعاقب عليه السلطة الحاكمة ... فأنت الذي تصورت ذلك .. لا الشخصية حكت ، ولا مؤلفها كتب ... ومع هذا .... لم يعف جاسم الرصيف من عقوبة السجن عشر سنوات ... ليس بسبب روايه تراتيل الوأد ..... ولكن بسبب ما كان يقوله خلف القشعام بالتحديد .

شخصيات الرواية :

أحسن جاسم الرصيف استغلال شخصية جده ( خلف الرصيف ) ليؤسس منها شخصية ( خلف القشعام ) . وهي شخصية اسطورية تمتلك ثمانية وجوه وثمانية اسماء هي : خلف القشعام ، أبو الابرد البدراني ، خلف أبو الابرد القشعام ، خلف البدراني ، خلف أبو الابرد البدراني ، أبو الابرد ، البدراني ، القشعام البدراني .
وانت تقرأ كلام القشعام في كل وجوهه وأسمائه عن الانكليز والعثمانيين والجوع والشجاعة والبطولة .. تتبادر الى ذهنك شخصية ( القائد الضرورة ) ... ولم يكن يعوز جاسم الرصيف إلا أن يسمي القشعام ( صدام ) حتى تتوضح الصورة نماما .
وبربط القشعام بواقع الرواية الذي هو يوميات الحرب العالمية ( الاولى ) على العراق من ثلاثة وثلاثين دولة ... يصبح من الضروري الكلام عن ( القائد الضرورة ) الذي لم تذكره الرواية باسمه أو شهرته أو كنيته ولا مرة واحدة .. لامدحا ولاذما ولا حتى ذكرا عابرا ، وذلك مبرر جدا ما دام خلف القشعام قائما بدله وعوضا عنه .
وحين تصل المواقف الى أقسى أزماتها .. تسمع جاسم الرصيف يقول (( وصب للقشعام قهوة وورث له جكارة )) في كناية عن قهوة ودخان مضيف القائد الضرورة الذي سببت لنا سياسته كل تلك المآسي ... السياسة التي لم تكن تمتلك غير الكلام الذي ليس له أي معنى ، ونحن نقاسي أصعب مآسينا الشخصية ، في سبيل خبال وجنون العظمة الذي كان يراود القائد كل حين .

( خلف القشعام ) الذي في الرواية أب لثلاثة أولاد . جواد وزيدان والمفقود .

(جواد ) ابن القشعام البكر ... هاجر الى المدينة ويرفض العودة للقرية رغم كل قساوة ظروف الحرب .
( سايب ) كما يسميه ابوه ...... لكن هذا السايب كانت له عائلة ، زوجة وولدين وطفلة رضيعة مشلولة تماما ، ومن سخرية القدر .... كان اسمها : أمل
ستقرأون فصولا مثيرة للغثيان الى حد التقيؤ .. كيف كان ( جواد القشعام ) يجمع لعائلته فضلات الطعام ... من تنكات الزبالة في أحياء الموسرين .... فقط من أجل إبقاء أفراد العائلة أحياء ، كانوا كل ماله في الحياة ، ولم يكن يستطيع أن يفقدهم بسبب شيء بسيط لا أهمية له اسمه : الجوع .

كان يجمع تلك اللقم تحت قصف المقاتلات الامريكية ... ومع هذا .... ففي نهاية الرواية ، يفقد جواد القشعام زوجته وولديه .... ولن تبقى معه غير ( أمل ) المشلولة تماما والتي لا يتحرك فيها غير محجري عينيها .
( زيدان ) ابن القشعام الأوسط ..... أخذته قادسية صدام ( المجيدة ) عدة سنوات ليكون نزيل خنادق الخوف والجوع والموت والألم ... لكنه رغم ذلك لم يفقد انسانيته ، ولا حبه للحياة .

في فترات إجازته من الجيش كان يعمل مثل حمار من أجل أن يجمع مبلغا من المال قيمته 2500 دينار عراقي .... بعد اجتياح العراق للكويت صارت لا تساوي ثمن عدة أرغفة من الخبز ، أو علبة سجائر . ومع هذا تحمل زيدان خلال فترة الحرب العالمية الاولى من 33 دولة على العراق ، مسؤولية والده .. وزاد عليها مسؤولية تحمل عبء عائلة من أم وثلاثة أطفال ، أضاعوا بطاقتهم التموينية ، إلتقاهم صدفة عند البقال الذي يسلم حصص البطاقة التموينية للمواطنين .

( المفقود ) ابن القشعام الأصغر .. ذلك الذي لم تنبت لحيته ولا نبت شارباه .. والذي لم يزل رذاذ الحليب حول فمه عندما استدعته طبول الحرب ليكون واحدا من حمله أسلحتها وراياتها .. لكنه يفقد على الفور ، هل هو ميت ؟ هل هو حي ؟ ... جرح ممض لايعرف معناه إلا من فقدوا أعزاء أحبة في نفس الظروف .
ذلك المفقود ، لم يمنحه جاسم الرصيف اسما ... لأنه كان كل الذين فقدهم الوطن .. كان أنت وأنا وهو وهي ... بعضنا فقد بالموت ، وبعضنا فقد بالتهجير ، وبعضنا فقد بالهجرة الاجبارية ، بعضنا ضعنا أسرى ، وبعضنا غيبتنا سجون الظلم ، وبعضنا فقد حين تقوقع على نفسه وأغلق باب بيته وباب عقله وصارميتا حيا يأكله الألم ...... مهما كانت نوعيه محننا فقد لمتنا صفة واحدة هي أننا ( مفقودون ) .

حين تنتهي يوميات الحرب في فعالياتها العسكرية ... سنجد زيدان الابن الاوسط ... يصرخ مولولا ينادي القشعام بكل أسمائه عله يجيب .... ولكن لا حياة لمن تنادي .
زيدان البطل الذي ضاع عمره في الخنادق والذي عانا ما عانا دون سؤال أو شكوى ... انهار ونكص . اذن من سيصمد في محنة تلك الايام ؟
أما جواد الابن الاكبر فقد كانت مأساته أكبر ... اثناء الحرب فقد زوجته وولديه في ظروف غامضة ولا يعلم موتهم من حياتهم ... ولم تبق معه غير أمل المشلولة التي لا يتحرك منها غير محجري عينيها .
عند ذاك ينكص هو الآخر ... يحمل ابنته ويذهب الى عند القشعام ، الذي ينصحه بدفن أمل أو وأدها ... في قبر القشعام نفسه ... القشعام يقول لولده جواد : لاصغار عند الشعوب التي قدر الله لها القتال ... يكاد قبري يتسع لها الآن فادفنها هناك .
تماما مثل قبر البعث اليوم عند اجتثاثه ، كم ستدفن فيه من ذكرياتنا وجهودنا وسيرنا الشخصية ، لا لشيء إلا لأنها تزامنت مع فترة كان فيها صدام والبعث هو الحاكم والمتحكم ... ولست أدري عندما يحكم بلدك حاكم ظالم ، هل عليك أن تغادر البلد وتتشرد لتثبت نظافتك ؟ اذا كان المنطق هكذا ، فهل كل أهلنا الذين بقوا في العراق مشكوك في أمرهم ؟؟؟!!!!!


شهادتي على وقائع الحرب :

يسرد جاسم الرصيف في وقائع اليوم الآول للحرب كيف ان الحيطان اهتزت ورشقهم نثار الزجاج المتطاير بالعديد من الجروح .
في نفس تلك اللحظة كنت أنا نائمة في الطابق الخامس من فندق نينوى ابروي صحوت على صوت طرق عنيف على الباب ، حين فتحت البا ب كانت الهندية المس كانجي مديرة استقبال الفندق تطلب مني بهلع أن انزل الى الملجأ ، صرخت بوجهي بالانكليزية : حـــرب ... حــرب ، لقد بدأت الحرب .

الضربة الاولى على مدينة الموصل كانت حين أغارت القاصفات القادمة من قاعدة انجرلك التركية على مخازن الذخيرة والعتاد العسكري العراقي في بادوش فأحالت الحياة في الموصل خلال العشرة أيام المقبلة الى كابوس مرعب ... كل عدة دقائق يثور كدس عتاد وينفجر مزلزلا الارض تحت أقدام كل من في الموصل .
عند الساعة الثانية صباح اليوم التالي .. أغارت نفس الطائرات على محطة تلفزيون الموصل وضربت شبكة المايكروويف ومنظومة الكيبلات المحورية ، لتعطيل كل الاتصالات المدنية والعسكرية .

بعد عشر ساعات ... وكانت الواحدة ظهرا في اليوم الثالث من الحرب ، رأيت القاصفة العملاقة تطير بحماية أربع طائرات مقاتلة صغيرة الحجم ... وقفت فوق سايلو حبوب الموصل وأفرغت حمولتها .
وحين صحونا صباحا في اليوم الثامن من الحرب ... وجدت القاصفة قد أفرغت حمولتها فوق الدائرة البديلة التي كنت قد أرسلت من بغداد لشغلها طيلة مدة الحرب ، محيلة أياها الى حفرة بعمق حوالي 15 متر ، وكان ذلك مقصودا ، فقد ظن القاصفون اننا ربما نمتلك طوابق تحت الارض نخفي بها الاجهزة الثمينة التي هربنا بها من بغداد لإخفائها في أماكن بعيدة آمنة .
نحن دائرة مدنية لا علاقة لنا بالعسكر إطلاقا .... لكني بعد أربع ساعات من قصف دائرتي وجدت ضابط استخبارات عسكرية يسلمني ورقة فيها أمر من العاصمة بترك كل شيء على حاله والعودة الى بغداد .

ولن أحكي لكم عن مأساة العودة الى بغداد بقطار الليل وتحت القصف فتلك حكاية اخرى .
حين وصلت الى بغداد في الثامنة صباحا ... كانت خالية الى حد الرعب ... ولم يكن يشغلها غير أعمدة الدخان .
سيارة شرطة النجدة نقلتني الى بيت أهلي فوجدته مقفلا .. وورقة ملصقة على زجاج النافذة تخبر انهم سافروا الى اهلنا في كركوك . حملتني السيارة الى بيت أهل زوجي .. وجدته مقفلا أيضا كانوا قد غادروا الى مدبنة الشامية .... أما زوجي فقد كان جنديا وحدته في مدينة ميمك على الحدود العراقية الايرانية .

عدت الى بيتي ، طرقت أبواب شارعنا بيتا بيتا ... ولم أجد فيها أحدا . عدا بيت في نهاية الشارع تشغله سيدة مسنة وولدها جندي وحدته في بغداد لذلك هو يأتي الى البيت كل ثلاثة أو أربعة أيام .
هل يمكن أن تكون هناك كلمات تصف حال الانسان عندما يشغل المدينة وحيدا ... لا ينتظر غير غارة الغروب أو غارة الفجر ... بلا ماء أو كهرباء أو غاز أو نفط ؟ .
عشت لأكثر من اسبوع فقط على الجزر المبروش ... حين يأتي وقت الوجبة .. ابرش جزرة في صحن وآكلها بالملعقة واشرب بعدها كوب ماء . وكنت موقنة أنني سأتحول ذات يوم الى أرنب ، أما بسبب الحرب ، وأما بسبب الجزر .

منطقتنا السكنية مليئة بالمواقع التي يجب قصفها .. غير اني لن أشهد ليلة مدمرة من الرعب مثل تلك الليلة التي أغاروا فيها على فرع أبو جعفر المنصور للحزب ... كان رعبا يفوق أي تصور وخارجا عن كل حدود الادراك .
في صباح اليوم التالي بحثت عن دائرتي ... وجدتهم يشغلون الملجأ رقم ( .. ) المجاور لملجأ العامرية ... انتظمت للعمل معهم اثناء النهار ... وفي الليل كنا ننام في الملجأ ايضا . مع العوائل التي كانت تأتي للاحتماء من هول تلك الليالي .
قبل عشرين ساعة من قصف ملجأ العامرية كنا قد علمنا ( أن السيد الرئيس وبصحبته ضيفه الروسي بريماكوف ) قد باتا الليلة الماضية في ملجأ العامرية .


من هو بريماكوف ؟

ولد بريماكوف في مدينة كييف بأوكرانيا سنة 1929 وتخرج من معهد موسكو للدراسات الشرقية سنة 1956 وعمل في راديو موسكو / قسم البلدان الاجنبية . ثم حصل على الدكتوراه في الاقتصاد سنة 1959 . درس اللغة العربية وأجادها ويتكلم اللهجة العراقية الدارجة بشكل متقن . قضى بريماكوف فترة الستينات في المنطفة العربية مراسلا لصحيفة برافدا وعميلا لوكالة مخابرات ( كي جي بي ) وتعرف عن قرب على معمر القذافي وصدام حسين .

عند عودته من المنطقة العربية صار عميدا لمعهد الدراسات الشرقية حتى عام 1985 أما في العام 1990 فقد صار بريماكوف مستشارا للرئيس غورباتشوف الخاص للشؤون الخارجية .. في تلك الفترة الحرجة من عمر الاتحاد السوفيتي قبل انهياره ... حيث كان التنسيق في كل المجالات بين الروس والامريكان في أعلى معدلاته لأول مرة في تاريخ العلاقة بين البلدين .
في تلك الزيارة أراد بريماكوف الذي يقوم الآن بدور مبعوث امريكي لصدام لإقناعه باعطاء أوامر عسكرية الى الجيش العراقي تأمره بالانسحاب من الكويت .

لكن صدام وكالعادة كان ممتطيا صهوة عناده .. وليكن ذلك نارا وشرارا فوق رؤوس الخلق ، يشجعه على ذلك علمه انه فتى الامريكان المدلل وأنه حتى لو عاندهم فلن يضحوا به ، الظرف الدولي كان دقيقا وهم محتاجون لوجوده لضبط منطقة الخليج خلال الفترة اللاحقة التي سينهار بها الاتحاد السوفيتي .
كانوا من تحليلهم لشخصية صدام ، يعرفون انه ( بطل ) مادامت التضحية بدماء الناس وارواحهم ولكن اذا وصل الخطر الى دمه أو روحه فما أكثر التنازلات المذلة التي يقدمها والتي كان يسميها ( مبادرات ) .

قرر الامريكان انه للحصول على ( مبادرة ) منه يسحب بموجبها الجيش العراقي من الكويت ، ان يضعوه وجها لوجه أمام الموت ( موته الشخصي هو نفسه ) . أرسلوا له بريماكوف ليفاوضه في الانسحاب .. وحين عاند ... قصفوا له ملجا العامرية الذي كان ينام فيه مطمئنا ليلة البارحة .

في اللحظة التي قصف بها ملجا العامرية هرولنا ركضا خارج ملجأنا ... كنا نعتقد اننا سنقصف ايضا . وفي تلك اللحظة .. رأينا صدام وبريماكوف قد وصلا الى الموقع حتى قبل أفراد الدفاع المدني ... وقبل أن يتكاثر الناس في المكان حملتهم السيارة العسكرية وغادرت الى مكان مجهول لقد كانا ينامان في تلك الليلة في ملجأ آخر من تلك الملاجيء الكثر المنتشرة حول القرية الرئاسية .
بعد ثلاثة أو أربعة أيام أطلق القائد ( مبادرة ) دعت الجيش العراقي الى الانسحاب .. فانسحب أولاد الخايبة بشكل غير منظم ... ومن يتفرج على البومات صور الانسحاب ... يدرك أي جريمة لا مسؤولة ارتكبها قائد أحمق بحق جيش مؤدلج مغلوب على امره .
الآن .. وبعد خمسة عشر عاما على جريمة ملجأ العامرية .. يجب أن نسمي الجناة ونحكي قصتهم ، قصة الدم البارد الذي أحرق ما يزيد على الف انسان الى حد التحجر من شدة التفحم ، لإرغام أحمق على اتخاذ قرار . ولا تصدقوا الهراء الذي تناقلته وسائل الاعلام عن الاستهداف الخطأ للملجأ . كل شيء كان قد تم وفق خطة مدروسة باتقان .

وعودة الى جاسم الرصيف ورواية تراتيل الوأد ، لا نملك ونحن نتذكر كل ذلك غير ان نردد مع جاسم الرصيف :
وصب للقشعام قهوة وورث له جكارة
وصب للقشعام قهوة وورث له جكارة
وصب للقشعام قهوة وورث له جكارة
mayahmed2005@hotmail.com

7.10.2006

عرض لرواية ( مزاغل الخوف ) د. مي أحمد

.عرض رواية جاسم الرصيف : مزاغل الخوف



د.مــي أحمد



أقضي عدة ساعات يوميا في المكتبة الوطنية للبلد الذي أقيم فيه حاليا , لكنني نادرا ما أزور القسم العربي فيها ... الكتب التي فيه ليست متنوعة بالحد الكافي ولا يدخل أغلبها ضمن قائمة اهتماماتي . لكن مناسبة طيبة حملتني الى ذلك القسم في المكتبة لأجد ثلاثة من روايات الروائي العراقي الكبير الاستاذ جاسم الرصيف والتي سأعرضها بالتتابع .
رواية مزاغل الخوف تقع في كتاب من 317 صفحة من القطع المتوسط ومع ذلك فقد شدتني لدرجة انني أكملت قراءتها في يومين فقط .
أحداثها وكما يقول الروائي تقع في ( أرض خارجة على القانون وبين بشر مطارد يتناهبه القراد ووطن يمشي على قدمين متعاديتين ) ... وهو حقا وصف ينطبق على العراق , كل العراق .


لا أحب الحديث عن نفسي , لكني سأتحدث عن العراق من خلال عيني كشاهدة على الاحداث .
في مرحلة البكالوريوس كان صفي مكونا من 17 طالبا و3 طالبات . وحين وصلت الى مرحلة الماجستير حصد الموت روح زميلتين واحدة حرقا والاخرى في حادث سيارة .. فيما حصدت قادسية صدام ( المجيدة ) أرواح زملائي الشباب ولم تترك إلا واحدا منهم بعد اعفائه من الخدمة العسكرية بسبب تعوقه بانفجار لغم ارضي عليه .

ولا أظن أن تلك بداية مشجعة لرحلة سعيدة مع الحياة حيث تبدأ الشعور بالذنب كونك الناجي الوحيد من تلك المحرقة .


القيادة ( التاريخية الفذة والملهمة ) قامت عام 1982 بمنع السفر على العراقيين فتحول العراق بأجمعه الى سجن كبير ... وحتى تكتمل اللعبة فقد كنت أعمل في مؤسسة ثقافية تعدها ايران من ضمن الاماكن التي ينبغي تدميرها ... لذلك كان علينا التوقيع يوميا في سجل خاص أثناء الدخول الى العمل أو الانصراف منه .. ذات يوم تجرأت وسألت الضابط المسؤول عن هذا السجل عن سبب توقيعنا فقال : من أجل ان نعرف من كان داخل الدائرة اذا تم تفجيرها !! .
اذن ما أسعدني وأنا أوقع يوميا في سجل الخسائر طول فترة الحرب مع أيران !! .

وحتى تأخذ اللعبة أقصى حدودها قامت ليبيا العظمى بتزويد ايران بصواريخ تصل مدياتها الى داخل بغداد ... عندها بدأت حرب دك المدن بالصواريخ ... هل نسيتم تلك الايام ؟
واحد من هذه الصواريخ سقط على بيت صديقتي فقتل ابنها وابنتها اللذين لم انس صورتهما لحد اليوم ... وبعد عدة أشهر سقط آخر على مدرسة بلاط الشهداء فقتل فيمن قتل ... ثلاثة ابناء لزميل لي في الجامعة .
والى ان انتهت الحرب ... كان الحي البغدادي الراقي جدا الذي أسكنه قد تحول ــ والاستعارة من جاسم الرصيف ــ. الى ( حي التنك ) , بعد الدمار الاقتصادي الذي عاناه العراقيون بسبب الحرب .. فتحولت قصور حينها الى ( مجمعات سكنية ) بعد تقسيم كل واحد منها الى ستة أو سبعة بيوت من أجل الاستفادة من ايجاراتها . .

خلال هذه الفترة كنت قد كتبت بحثين جامعيين الاول عن رائعة بول فاليري .. فاوست كما أراه حيث يرسم العمل نقطتين واحدة للخير واخرى للشر ويربطهما بخط وهمي ويحاول فهم آليات ودوافع حركة الانسان على هذا الخط بين نقطتي الخير والشر .
كان وقع الحرب علينا أكبر من قاسي , ويعري في طريقه الكثير من القيم الانسانية الحقيرة التي كانت مستورة في زمان ما قبل الحرب .... وكان هذا هو دافعي لاختيار عمل فاليري لجعله مادة لبحثي
وكان ضغط الحياة شديدا تلك الايام ... لكني انتبهت الى ان الناس صارت تضحك بكثرة وهذا دفعني لكتابة البحث الثاني عن موضوع برغسون: ( رسالة في الضحك ) !! .
برأي برغسون .. الانسان وحده هو الكائن الضاحك ... وضحكه علامة نضج حضاري لاتمتلكها الكائنات الاخرى .. وعنصر المفارقة في أي موضوع سيصيب البشر باختلاجات عضلية تشعرهم بالدغدغة التي يندفع معها الهواء من الرئتين الى الخارج بطريقة ... نطلق عليها تسمية الضحك !! . .

ليس سارا دائما الموضوع الذي يؤدي الى حصول تلك الاختلاجات ... لكن النتيجة دائما هي نفسها : انك تضحك ... أحيانا كثيرة من الالم .. وليس بسبب السعادة أو الفرح !! .
اعترف انني وفي كل حياتي , ضحكت ثلاث مرات داخل مكتبة عامة ... المرة الاولى عند قراءة رواية ( كنديد ) لفولتير ... في الفصل الذي باع فيه النخاس ( كنديد ) الى عجوز عربي لديه اربع زوجات جميلات ... مما حدا بذلك العجوز لبيع كنديد الى فارسي شاذ للانتقام منه بطريقة معاكسة !! .
والمرة الثانية التي جلجلت فيها ضحكاتي في أرجاء المكتبة ... كانت وأنا أقرأ الهراء الذي يسمونه ترجمة كتاب أرسطو ( فن الشعر ) الى العربية على يد القنائي .. الرجل كان سريانيا ولغتاه العربية واليونانية ضعيفتان جدا ... ويحاول ترجمة أرسطو كما يحلو له من اليونانية الى العربية ... ولم أجد نفسي إلا وأنا أقرقع بالضحك حين وصلت الى ترجمته للمصطلح الارسطي ( الإله من الآله) !! .



المرة الثالثة كانت على يد جاسم الرصيف في روايته الرائعة ( مزاغل الخوف ) . فقد قرقعتها ضحكة مجلجلة هزت أركان المكتبة لم استطع معها الا الفرار ركضا الى الخارج ...
ولكن مهلا ... تنبهوا ... فرواية مزاغل الخوف , رواية سادية تقتلكم بدم بارد ... وأداة القتل هي الضحك ... ألم تسمعوا بالموت ضحكا ؟ ... أو الضحك الى حد البكاء ؟ هذه هي رواية جاسم الرصيف.
الاستاذ جاسم الرصيف عراقي من اهل الموصل ومن مواليد 1950 ... وهذا معناه أن قادسية صدام ( المجيدة ) قد شملته بمكارمها شاء أم أبى ... وتركت في نفسه صدى ألمسه في كل تعابيره .



في مزاغل الخوف ... اختارالاستاذ جاسم الرصيف من الحرب تلك الفترة الواقعة في نهاية الحرب العراقية الايرانية مرورا بعامين من العذاب جوعا .. وصولا الى الخازوق الثاني الذي اسمه اجتياح الكويت .



ثيمة الرواية : تقع في ( حي التنك ) بمدينة الموصل .. لكن وانت تقرأ تشعر ان كل العراق كان في حي التنك .
حكومة السيد صدام ( اسمه في الرواية : غمام البين ) قررت ان تستبدل شيوخ العشائر القدماء بشيوخ جدد يقوم بصنعهم المحافظ والقائممقام ودائرة الامن أو المخابرات , الغرض من ذلك جعل العشائر محكومة من قبل شيوخ صنائع للحكومة .
يجلبون واحدا ... مجرد اسمه ... اسمه فقط .. سبة بين الناس ويجعلونه شيخ عشيرة , يستدعى الى القصر الجمهوري لمقابلة السيد الرئيس ... لكنه يقابل عوضا عنه واحدا من السعاة .. ويتسلم مبلغا من المال وسيارة حمراء اللون ... فيعود منتفخا الى الموصل الفيحاء .. ساعيا لتجنيد أبناء حي التنك جنودا في قادسية صدام ( المجيدة ) . هذا الشيخ ... اسمه الشيخ بعيو , بعيو أو بعيوة معناها : حيوان .. بعيو هو الذي لا يعي شيئا .
لديه مساعدان ... هما اولاد عمه : شعيط ومعيط .

فأي مجتمع هذا الذي يدار من قبل بعيو , أو شعيط , أو معيط ؟.
قصة الرواية تذكر بمسرحية برتولد برخت ( السيد بونتيللا وتابعه ماتي ) في أكثر من موقع من مواقعها غير ان الحس العراقي والنكهة العراقية والمأساة العراقية تعطي الرواية طعما ورائحة حادتين جدا لم تتمتع بهما مسرحية برخت .



حبكة الرواية :
ــــــــــــــــــــــــ
اعتمد الاستاذ جاسم الرصيف في ادارة حبكة هذه الرواية على فعلين بينهما قدر من تفاوت القوة , ولكن متعاكسين في الاتجاه ... والصمام الذي تلتقيان عنده والذي سيتم تفجيره عند نهاية الرواية هو ... الشيخ بعيو نفسه .
القوة الاولى هي قوة الحكومة ابتداء من رأس السلطة الذي تسميه الرواية ( السيد الرئيس ) أو ( غمام البين ) وحسبما تقتضي أحداث الرواية .. مرورا بضباط القصر والمخابرات والامن وصولا الى المحافظ والقائممقام ... مرورا بجميع رفاق حزب البعث من أمين السر وصولا الى أصغر الحلقات .

تسعى هذه القوة للسيطرة على القوة الثانية بواسطة أداة تقليدية تعارف المجتمع على احترام قراراتها ... هذه الاداة التقليدية هي شيخ العشيرة . وحيث ان أغلب شيوخ العشائر العراقية لم يتربوا التربية الحزبية الكافية , وبالتالي فحتى بعد اغرائهم بكل الوسائل فلن تتطابق قناعاتهم مع قناعة الحكومة تماما .. لذلك تم اتخاذ قرار تغييرهم .. بامثال بعيو واقرانه .
القوة الثانية والتي هي قوة الحياة وارادة المجتمع لا تقل قدرة وخطورة حتى عن قدرة ( غمام البين ) نفسه , في الوقت الذي يزود القصر الجمهوري الشيخ بعيو بمئات البنادق لتسليح ابناء عشيرته , فان أبناء العشيرة يساعدون شيخهم على تهريب هذه البنادق وبيعها الى البشمركه في الشمال , محولين امل حكومة بغداد الى كارثة عليها .

ويستمر مرجل الغضب بالغليان في العراق الى ان تحل ساعة الخلاص .


لغة الرواية :
ــــــــــــــــــــــ
لغة جاسم الرصيف في كل اعماله لغة رصينة محكمة السبك والصياغة وهذا يشجع اكثر على القراءة له ... كما انه يمتلك القدرة على جعل شخصياته تتحدث بلسانها هي لا بلسان مؤلفها وآرائه .
تتخلل لغته العربية الفصحى الكثير من الكلمات الموصلية الجميلة والمحببة والتي تعطي العمل نكهة قادمة من شمال الوطن .


شخصيات الرواية :
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
كما يحصل في بعض الافلام السينمائية اليوم حيث يخلطون الشخصيات الانسانية الحقيقية باخرى كارتونية , كذلك كان خليط شخصيات رواية جاسم الرصيف – مزاغل الخوف .
هل رأيتم فلم ( أليس في بلاد العجائب ) ؟ ... حيث هي وحدها الكائن البشري بينما كائنات بلاد العجائب شخصيات كارتونية من العمالقة أو الاقزام .
كذلك شخصيات مزاغل الخوف شخصيات كارتونية تصور عمالقة أو أقزاما ... وعبقرية جاسم الرصيف في هذه الرواية أنها رسمت لنا صورا لأقزام متعملقين ... وأحيانا صورا لعمالقة مقزمين.

الشخصيات التي انتمت الى الحكومة وكل ما يمت لها من دوائر أو مؤسسات كانت من صنف الاقزام المتعملقين .... في حين الشخصيات التي تنتمي الى عموم المجتمع والتي تبحث عن عالمها المدني ومسراتها الصغيرة ... هم عمالقة قزمهم وقع الحرب وجور السلطة ... وألفت انتباه القراء الى ثلاثة شباب في هذه الرواية اسمهم : اخوة عرنة ,, فهم يستحقون وقفة خاصة لتأمل اسلوب بنائهم المتفرد من قبل جاسم الرصيف .

الشخصية الآدمية الوحيدة في هذه الرواية هي واحدة لكنها باربعة وجوه وأربعة أسماء . نستطيع أن نسميها شخصية الانسان العراقي صاحب المعاناة الحقيقية .
وجهها الاول ... شخصية ستار عجقة ( عجقة : كلمة موصلية معناها عند بقية اهل العراق : خبصة ) هذا الولد الجميل , المتعلم الوحيد في قريته , الذي يقبل بكل ما هو بسيط في سبيل تمشية الحياة بأبسط قناعاتها الشريفة .. لكنه يضطر للعمل كمهرب سلاح بعدما سدت بوجهه كل منافذ العمل الشريف .
ووجهها الثاني ... شخصية ( أنا ) , وهي شخصية رجل , ظلت مجهولة لنا الى أن اكتملت صورة ستار عجقة ، تماما عندها توحدت الصورتان في شخص واحد هو ستار نفسه !! .

( أنا ) .... رجل حدثنا عن أنواع الضرب والتعذيب الذي تلقاه في مركز الامن ، والذي حتى وهو يرويه لنا مجنيا عليه .. يخاف من تعريفنا بأسمه , وكأن قول الاسم مرفقا بتفاصيل التعذيب ستكون دعوة جديدة للجناة لاستكمال ما نسوه في دورة العذاب القديمة ...في دورة لاحقة جديدة ... وأن تخفي اسمك فتلك آلية نتبعها كلنا حين يقع علينا ظلم وجور سلطوي غير قابل للتصديق من هوله وشدته .
وجهها الثالث .... شخصية ونسه خباثة , تلك السيدة العاهرة غصبا عنها صنع عهرها كل من الحكومة الجائرة والمجتمع الجاهزة احكامه المسبقة .. ولم يبق عليها الا ان تواصل دورها هذا لسنين وسنين !! .
وهي العاهرة الوحيدة التي كانت تقبل زبائنها بالدفع الآجل .. فهي لم تمتهن هذا الدور لربح مادي ولا لمتعة جسدية , انما فتحت عينها على الحياة لتجد هذا هو دورها بعد ان غيبت السجون والدها ووالدتها بتهمة التآمر على الوطن حين كانا يعملان فراشين في مدرسة .
وهي تهمة جاهزة كانت الحكومة تلصقها باي عراقي من رتبة وزير نزولا الى أي واحد من فاقدي الاهلية العقلية في مستشفى الامراض العقلية .. مرورا بكل مواطن أو مواطنة .. لا بل ان هذه التهمة شملت حتى المقيمين لمدد قصيرة .
وجهها الرابع ..... شخصية نور الهدى تلك البنت الحلوة التي تشتغل عاملة في أحد المصانع والتي نكتشف بعد سرد مطول لسيرتها ومجهولية اصلها والمكان الذي جاءت منه , انها هي نفسها ونسه خباثة ... أو هكذا يراد لنا ان نتصور .

قوادة حكومية اسمها مي حركات ,, تتعرف على ونسه خباثة وتراها جميلة تريد تقديمها الى واحد من الرؤوس الكبيرة لكن هذا كان يريد واحدة عذراء ... فتأخذ القوادة .. ونسة خباثة الى طبيب لترقيعها .. وتعطيها إسما جديدا هو نور الهدى ثم تدفعها في طريق هذا الراس الكبير ... كي تجني منه القوادة قطعة ارض كبيرة في موقع مهم من المدينة .
هذا المقطع من الرواية قاسي وأراه خادش للحياء .. وما كنت اقبله من جاسم الرصيف لولا قراءتي كتاب ( كنت طبيبا للرئيس ) لمؤلفه علاء بشير , يسجل فيه اعترافاته وهو طبيب صدام الخاص انه كان يقوم للقصر بالكثير من هذه الاعمال . ولمن يهمه الاطلاع على كتاب علاء بشير فهو منشور على الموقع الالكتروني صوت العراق / في خانة الكتب .

لماذا أعتقد أن هذه الشخصيات الأربعة .. هي شخص واحد ؟ ... لأن شخصية الانسان العراقي صاحب المعاناة الحقيقية تنطوي على كل هذا .
ليس هناك فرق بين الرجال والنساء ... الانسان أنسان بغض النظر عن أي شيء وكل شيء .

كلنا كنا ستار عجقة الذي سدت عليه المنافذ ولم يعد بامكانه الاستمرار إلا بان يعمل في أمور خطرة كتهريب السلاح ... أو القبول بوظائف بمنتهى المهانة كالعمل سكرتيرا أو تابعا للشيخ شعيط أ ومعيط .. أولاد عم الشيخ بعيو .
وكلنا عانينا التعذيب الذي عانته ( الشخصية أنا ) في سجن العراق الكبير الذي أقفلوا علينا أبوابه منذ العام 1982
وبغض النظر عما اذا كنا قد وشي بنا لتتم استضافتنا في الامن العامة أوالمخابرات لمدد محدودة او غير محدودة ... أم لا !! . ...
كنا كلنا ماديا أو معنويا , قد تم جلدنا بالاسلاك وضربنا فلقة ... والبعض الاخر كان اوفر حظا في التعرف على آليات تعذيب لم يعرفها أحد غيره تفتقت عنها عقلية الجلاد .

وكنا رجالا ونساء يضيع شرفنا مثل ونسه خباثه بلا حول ولا قوة على دفع ذلك ومقاومته عنا ... وربما صور الاستغلال الجنسي هي من أبسط تبسيطات صور ضياع الشرف ... إلا اذا كنتم تعتقدون أن بإمكان الانسان أن يفعل أي شيء كالغدر والخيانة والوشاية وضياع الامانة الشخصية والكذب الاسود غير المبررويبقى شريفا .. لكن شرفه يعاب فقط عند العبث بمناطق حساسة في جسمه رجلا كان أو امرأة ... خصوصا حين يقع ذلك العبث رغم ارادة المجني عليه وموافقته .
وكنا كلنا نور الهدى ... تلك الادمية التي استغلت حتى بأبشع مما يستغل به الحيوان . من قبل الحكومة او المجتمع !! .


في رواية جاسم الرصيف / مزاغل الخوف / هناك ضحك الى حد البكاء , وبكاء الى حد الضحك ... لذلك لا تقرأها في داخل مكتبة عامة .
أختلف مع الاستاذ جاسم الرصيف حول نهاية الرواية خلافا بسيطا ... فهو يحدد تاريخ اليوم الذي بدأت صليات النار تنطلق باتجاه قصر الشيخ بعيو .... واستعمال كلمة القصر يتسع مداها هنا لتصل الى القصر الجمهوري ... ولتجرد صدام من اسمه ... وتعطيه بدلا عنه اسم : شيخ بعيو , حدد الاستاذ جاسم الرصيف هذا اليوم أنه كان في يوم الجمعة التالي لاجتياح العراق للكويت .

غير اني ارى الامور بمنظار أخر ... ففي زمن صدام .. نادرا ما أطلقنا صلية على قصر صدام ... كنا فقط نتكلم ... ونتحمل كيبلات الضرب ... الى أن دفعناه حفظه الله الى اقرار عقوبة قطع اللسان علها تكون رادعا لنا كي نغلق أفواهنا . ويجب أن نعترف أن صدام لم يسقط بنضالنا .... صدام كان وكيلا امريكيا توجته امريكا حاكما مطلقا فوق رؤوسنا .. وتغاضت له عن كل جرائمه ... حتى تلك الجرائم التي تحاكمه عليها الان !! .
تغاضت له حتى عن اجتياحه للكويت !!.. والقوة الغاشمة التي استعملوها لإخراج الجيش العراقي من الكويت لم تستخدم ضد صدام شخصيا بل ضد الجيش والشعب العراقي .

وخلال المدة بين 1991- 2003 كانت قرارات صدام قد لعبت كرة قدم بالعراقيين ... وكان حصاره هو , أقسى وأشد واشنع علينا من الحصار الامريكي وحصار قرارات الامم المتحدة ... وفي جعبه كل واحد منا مئات الحكايات عن الموت بالمجان ليبقى القائد على كرسي قيادته التاريخية الفذة ... ولم يحرك ذلك شعره لا في رأس ولا في مؤخرة الضمير العالمي أو حقوق الانسان . .

بعد أكثر من اثني عشر عاما من التاريخ الذي حددته رواية الاستاذ جاسم الرصيف موعدا لبدء اطلاق النار على القصر ... انتهى دور صدام عند الامريكان ... وسقطت ورقته فجاء اليانكي المدلل على صهوة دبابته لهدم هيكل ( الوكيل القديم ) صدام ورفع انقاضه .... ولم ينس ( الراكب عالعبية أن يحول ويرتاح شوية ) وأن يحمل لنا على تلك الدبابة مجموعة من الوكلاء الجدد الصغار .. عسى أن يكبر واحدا منهم بعد سنة أو سنتين .. ليكون خير خلف لخير سلف !! .
هؤلاء الوكلاء الجدد يتبارون الآن في وصف انفسهم بالمناضلين والمجاهدين .... اما وانهم جاؤا راكبين على الدبابات الامريكية ... فاقول فيهم قوله الشاعر العراقي مظفر النواب ..... يا أولاد ( .. ) ولا أستثني منهم احدا .





mayahmed2005@hotmail.com




6.21.2006

عن رواية ( أبجدية الموت حبّا ) بقلم الدكتور جمال حضري . الجزائر

عن رواية أبجدية الموت حبا ... د. جمال حضري
التاريخ: الأثنين 19 يونيو 2006
الموضوع: قراءات

عتبات العنوان وظلال المسارات

يبدأ خطاب رواية (أبجدية الموت حبا) للروائي العراقي جاسم الرصيف، الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط2، 2000 بعنوان متعدد المستويات، ففي مستوى التواصل نحن إزاء مرسلة يمكن تفكيكها ليصبح تركيبها هو: كيف تتعلم الموت حبا؟ ومن هنا يبدأ البحث عن باث الرسالة المفترض وعن متلقيها المقصود.

وحين يكون العنوان وظيفيا بهذه الصورة فإنه ينطوي على سر النص ومفتاحه أو على وجهته ومقصده، وهو بالفعل ما يحدث لرواية "أبجدية الموت حبا" التي تصلح أن تكون وثيقة تؤرخ لفصول من الفداء والوفاء للوطن.
لكن ألا يكون العنوان قد جمع ما لا يجمع من خلال تنميته لصورة متضادة الأطراف بأن ألحق الحب بالموت وجعل لهذا الموت سبيلا يتعلم ويتدرج في تحصيل فقهه ودروسه؟
لو كان العنوان: أبجدية الحب حتى الموت، أو أبجدية حب الموت أكان ذلك يلحق بعتبات النص أضرارا تؤثر على مسارات السرد وبرامج شخوصه ومصائرهم؟
ههنا إذا تتطلب القراءة وقفة للتحليل الدلالي والتأويل، لأن العنوان في الرواية المعاصرة لم يعد قبعة إضافية ولا زينة ملحقة بجسم مكتمل قد يستغني عن الزوائد بل إنه يمثل جزءا حيويا من النص إلى درجة تمثيل صلب الدلالة وكأنه دال ومدلوله باقي النص أو بالعكس مدلول يفسر دال النص كله، فإلى أي حد نجد عنوان متننا المدروس قد اجتمعت أوصاله بنصه وفي أي صورة أظهر هذا التواشج والتلاقي؟

شظايا المقومات وكيمياء التركيب

يتضمن العنوان إذا ثلاث وحدات معجمية: أبجدية، الموت، حبا: حين نحلل كلا منها نجد مايلي:
- أبجدية: تطلق على مجموعة الحروف العربية، وهي تتضمن معاني التعليم والبدايات والاستهلال والتدرج والمعلومات الضرورية... إلخ
- الموت: حالة الفناء والنهاية والافتراق والوحدة والغاية ونهاية المقاصد والسعي... إلخ
- الحب: عاطفة إيجابية بالميل نحو الخالق أو الإنسان أو الأشياء أو القيم... إلخ
فما النواة الدلالية المنماة من خلال هذا المثلث المعجمي ذي الأضلاع المتضادة؟ ما الذي جمع مفردة تنطوي على التعليم والاستهلال والاتجاه المتنامي وهي الأبجدية مع مفردة تنطوي على الانتهاء والتفرق والوحشة ألا وهي الموت مع ثالثة هي عاطفة تتضمن الميل والاتصال والأنس والاجتماع والخصب والإثمار؟
إن سياق التركيب يفعل فعله ويعتصر من افتراضات المعجم رحيقا مضافا ودلالة مولدة ويستثمر من مؤجلات المعاني ومعلقاتها ما يمكن أن يند عن العقل المحصي والنظر المدقق. فما الذي حينه النص السردي وجهز به أجواء التأليف ومجاريه حتى التأمت هذه المتنازعات؟
لننظر ما الذي يتولد عن ضم الأبجدية إلى الموت: ليس غريبا ولا بعيدا كون الموت حالة تثير رعب السامع وكل حي، كيف لا وظلالها كافية لتنهي إلى متلقيها حالة حبس الزمن عن الجريان وتوقف كل المرادات والنوايا، أما وأن المفردة تنضم إلى الأبجدية فإنها تنصبغ ببعض مقوماتها، فيصبح للموت قواعد تتعلم وحروفا وأصواتا تتلقى وتحفظ وتؤدى وفق تلك القواعد ليحكم لمستعملها بالصواب أو الحيدة.

هو إذا موت غير الموت، ونهاية غير النهاية بل لنقل هو موت لتبدأ الحياة، الحياة الحقيقية، ونهاية غير النهاية الجسدية المعلومة المكرورة، بل هي نهاية لحياة حقها النهاية لتبدأ حياة أخرى حقها أن تبدأ على أنقاض الأولى، ولذلك سرعان ما نجد هذا المنحى يتأكد حين ينضاف المركب إلى ما يميزه ويوضحه وهو "حبا". نعم هنا نجد المقومات تتضام بصورة أجود وتسوغ هذا اللقاء الصعب والمجاورة المستغربة للوهلة الأولى، فإذا بنا نتفهم كل الفهم ونتشرب بملء الفم والوجدان أن "للموت حبا" طريق على سالكيه معرفة مسالكه ومساربه، لأنه موت يولد الحياة ونهاية تؤسس لبداية وفناء ينتفض من رفاته البقاء، وموت بهذا الخطر يتطلب بالفعل معرفة فنه وسبله، إنه فن الموت لصناعة الحياة وهنا تتضافر بكل سلاسة مقومات: التعلم / الفناء / الإثمار، لأنها مقومات ضرورية لفرد واحد في هذا الوجود والكون الذي شيده نص الرواية إنه: المقاوم.

النص يستكمل عتبات عنوانه

لا نستعجل النص كي يعطينا ثماره قبل أن نبذل في سبيل القطاف ما يطلبه الثمر الطيب، لأن السؤال الذي نحن في مواجهته الآن هو: نتعلم الموت حبا في سبيل ماذا؟ وهنا بالضبط تلوح لنا الإجابة عن العلاقة العضوية والوظيفية بين العنوان كعتبة للنص ومتن النص كامتداد ما لعتباته، فهاهو العنوان في صياغته اللغوية غير مكتمل فـ (أبجدية الموت حبا) تركيب لا يفي بالمطلوب ولا يحسن السكوت عليه كما يقول النحاة حتى يوردنا مقصده وفائدته، ولم نر من المتلفظين بالحب مفصولا عن لواحقه إلا ما تجيزه أعراف العشاق والشعراء، لأن ذكر الحب مع متعلقه هو من الحشو عندهم وتحصيل الحاصل أن تضاف للحب إضافة لأنه أصبح من كثرة استعماله دالا على مضافه عرفا وتداولا وسابقة، أما هنا في مسار السرد فلن نعمم القاعدة ولن نجري عرف العشاق والشعراء فيه، حتى وإن وجدنا في متن النص السردي هذا أجواء العشق غامرة وسوقه عامرة.
وليس هذا التأبي والامتناع إلا لأن التركيب جعل من الحب تمييزا للموت الذي كما رأينا ينمي تيمة الفناء والفراق، فالعتبات إذا تدفعنا راغمين نحو استنطاق النص بل نحو استثماره لاستكمال تركيب العتبات ونفهم المسار الذي تدفع باتجاهه هذه المقومات المسرودة في حديد العنوان وقالبه.

المسارات المتضادة وتوليد الكفاءة

في النص مساران سرديان، مسار الذاكرة ومسار الحاضر، مساران بسيطان من حيث الكثافة السردية، فليس فيه عوالم متداخلة رغم تباعد المسارين زمنيا، فهناك مسار للسارد بضمير "أنا" وهو صوت الحاضر، أو هو صوت المأساة في وجهها الحاضر، ومسار للسارد الثاني بضمير "هي" ولكنه يسرد بضمير "أنا" أيضا فالسارد واحد ولكن بضمير "أنا" الرجل في الحاضر و"أنا" المرأة في الماضي وإن انزلق السارد الحقيقي وأسماها "هي" ليكشف لنا ربما من غير أن يقصد أنه لا سارد إلا واحدا في الحالين، ورغم ذلك فصورة السرد المزدوج قد تحققت وفتحت لنا منفذا للتساؤل عن سر التاريخ المؤنث والذاكرة اللطيفة وعن سر الحاضر المذكر والآن الخشن؟

تأنيث الذاكرة

ألا يؤدي تأنيث الذاكرة إلى تعقيم المخصب كما يؤدي تذكير الحاضر إلى نضوب المستقبل؟ لو كان صوت الأنثى للحاضر وصوت المذكر للماضي ألم يكن ذلك متماشيا مع موت مولد للحياة وفناء ينبثق عنه البدء والولادة؟
لنغلق هذا المنفذ الآن لندلف إلى المسارين ونحاول أن نربط البدايات بالنهايات والمآلات ونصل إلى استكمال تركيب العتبات.
المسار الأول يقوده السارد البطل بصوت "أنا"، صورة شاب وصف نفسه بضعف الذاكرة التي كانت سبب فشله الدراسي، وحين نقول الذاكرة نقول الفشل في التعلم، لأن لكل معرفة أبجديات تحفظ وتلقن، لكن صاحبنا يعزو فشله السابق بهذه الذاكرة العليلة ويربط بها فشلا متوقعا على صعيد العسكرية أيضا.
من المنظور السيميائي يسمى مثل هذا النقص خللا في الكفاءة اللازمة للقيام بالبرنامج المؤدي إلى الاتصال بالموضوع المرغوب. نعم هذا بالفعل ما وصل إليه السارد نفسه، فهو يتوقع الفشل في المهام التي تنتظره بناء على نقص القدرة على تذكر القوانين وطرق استعمال السلاح... إلخ.
في مقابل هذا المسار المليء بالتوقعات السلبية لدينا مسار آخر يتموقع زمنيا في الماضي ولكنه مرتبط فضائيا بالمسار الأول لأنه يتناول الحيز ذاته أي شبه جزيرة الفاو التي كانت مسرحا لمعارك طاحنة بين العراق وإيران، إذا فالمبرر الذي يجمع المسارين واضح على الأقل في تيمة الحرب التي يواجهها الساردان وكذا فضاء إنجاز مهمتيهما.
لكن المسارين متمايزان إلى حد التضاد، وسنرى قيمة التضاد في توليد المعنى وحتى توليد المسارات السردية في النظرية السيميائية التي تشكل بقدر ما خلفية هذا التحليل.

يتمايز مسار "هي" بأنه مسار الرغبة ومسار "أنا" هو مسار الجبر، وهذا مهم جدا في تشكيل كفاءة من يتصدى لإنجاز المهمة، فقد وجدنا السارد يتوقع الفشل في مهمته، فقد دفع إليها دفعا ثم هو منقوص من آلة التحصيل والتعلم، أما "هي" فتحركها رغبة متوارثة منذ عشرات السنين في المسير إلى جبهات القتال كلما تحركت أوصال العراق بالشكوى من معتد أو غاز، ثم هي تتنازع الخروج إلى الجبهة مع والدها في رغبة جامحة إلى السبق بالفداء، بينما نجد مسار "أنا" يظهر الخروج إلى العسكرية ومن ثم إلى الجبهة باعتباره خبرا مفزعا ينتظره الكل كأمر لا مفر منه ومن ثم يوصي الأب ابنه بالصبر والرجولة مظنة أن تظهر على الفتى آثار التردد.
ومع أن الوالد ذو خلفية عسكرية فإن هذا الأمر لم يصب في تكوين كفاءة السارد، بل وسعت من نطاق التناقض بين الواقع والمطلوب، خلاصة الأمر أن مسارين متضادين لبرنامج واحد يشق أحدهما طريقه بين فجاج الذاكرة والتاريخ والثاني يتلوى بصعوبة بين مسامات الحاضر.
لكن لنؤكد أن البرنامج هو نفسه: برنامج القتال أو التحرير أو رد المعتدي، ثم تأتي مرحلة الإنجاز الفعلي والقيام بالمهمة، وعلى التوازي بين المسارين ينتقل "أنا" في لحظة مفاجئة غير منتظرة إلى الجبهة، كما انتقلت على المسار الآخر "هي" إلى الجبهة ولكن عن وعي وإصرار وترصد للعدو وتحين لكل ما يترتب على الأمر من تكاليف وأثمان.

الإنجاز وأبجدية الفداء

وفي الجبهة يجري ما لم يكن في الحسبان، فعلى مسار "أنا" يتم استدراك ما كان ينقص الكفاءة من مواصفات، يستوعب السارد البطل أبجدية الموت في الميدان وهو يرى رجال المقاومة يتساقطون والراية تنتقل من ساعد إلى ساعد ولعلعة الرصاص فوق الرؤوس لا تزيدهم إلا إصرارا على بلوغ حدود الجبهة وإرغام العدو على التراجع إلى حيث بدأ عدوانه.
يتعلم أبجدية إطلاق الرصاص واستعمال السلاح والصبر على السير في الأوحال وتحت ضرب المدافع، ولنقل إن استكمال الكفاءة جاء في أسرع وقت لأن الدوافع والحوافز كانت من الحدة وشدة التوتر ما جعل حساب الزمن غير ذي معنى، ولنربط كل هذا بالمسار الآخر مسار "هي" التي تقف على الجبهة ذاتها في عدوان مماثل وكأن صوت التاريخ وصورته اللذان تجسدا في "هي" لتشكيل الدرس الذي تم استيعابه على الأرض، درس التاريخ ودرس الذاكرة، درسها "هي" لأنها هي: الأرض.
هكذا إذا، الأرض وحدها حركت الذاكرة لتتعلم الدرس، وحركت التاريخ حتى لا تتكرر إلا المسارات المقاومة. وهنا نفهم إبداع التوليفة بين المسارين ولماذا سارا متضادين، بكل بساطة لأن في التضاد يكمن الغرض السردي ذاته، لأن مسار "أنا" يتعلم من مسار "هي"، أي إن مسار الفداء يأخذ من مسار الأرض، فيتولد عنهما المقاوم الكفء القادر على دفع المعتدين.
بقي الآن استكمال عتبات العنوان: فقد رأينا برنامج المقاومة يصل مقاصده، وتولد من درس التاريخ استحياء الهمة والروح، فانقلب الموات حيوية وحماسة واندفاعا، واستدرك تعلم أبجدية القتال الذي كان محل المساءلة والاستنكاف إلى وسيلة الأمن والحياة، لقد فهم الفتى أن في الموت سر الحياة وفي القتال سر الأمن والبقاء فلا مندوحة من مجابهة الظالم إذا أراد المسالم أن يعيش في أمان.
إنها أبجدية الموت حبا للأرض...
كيف تم تعلم كل ذلك؟
لقد تم ذلك بفضل ذاكرة الأرض والوطن، نعم الأرض استنهضت في أهلها نخوتهم وعلمتهم كيف يموتون لتحيا أجيال، والتاريخ مليء بالنماذج وهنا بالضبط يقع معنى توالد الحياة من الموت والبقاء من الفناء ونفهم ألا سبيل إلى تلك العتبات فيكون للموت حبا أبجدية لا تتعلم إلا بأن يكون الحب للأرض.

د. جمال حضري / الجزائر
djhadri@yahoo.fr





أ