د. محمد الداهي: قراءة في رواية رؤوس الحرية المكيّسة
عبث البشر
قراءة في رواية” رؤوس الحرية المُكيسة” لجاسم الرصيف
د.محمد الداهي
رغم أن الوضع الحالي للعراق قد استأثر باهتمام المحللين والمتتبعين السياسيين على اختلاف مشاربهم وأطيافهم، فهو لم يثر بعد شهية المبدعين والمخرجين السينمائيين لإعادة بنائه بطرق جمالية وفنية.
.
وفي هذا السياق يمكن أن ندرج الرواية العاشرة ([1]) “رؤوس الحرية المكيسة ” للروائي العراقي جاسم الرصيف، والتي شخصت، بجرأة، الأزمة السياسية والاجتماعية التي يعاني منها العراق رغم ما يحذق به من أخطار ومزالق نتيجة ” اختلاط الأوراق” و ” تضارب المواقف والمصالح” . لقد حاول جاسم الرصيف أن يخلق مسافة مع ذاته ووطنه لفهم ما يجري ظاهريا في قلب الموصل، و ما يحاك سريا في هوامشها وأطرافها، ولاستنباط العبر المناسبة للمواطنة الحق التي ستعيد الاعتبار إلى المواطن العراقي وتفتح له آفاقا جديدة لتدبير أموره الشخصية والعامة وهو ينعم بحريته وسؤدده وكرامته. ومن إيجابية هذه الرواية أن مؤلفها أعاد تشخيص الوضع العراقي بطريقة مغايرة حتى لا يكون نسخة للصورة النمطية التي تروج لها وسائل الإعلام، كما أنه استثمر المادة التاريخية لوضع تجربة مأساوية في التاريخ المعاصر تحت المجهر وذلك لاستكناه خيبات آمال العراقيين في بناء مجتمع آمن ومستقر ومتمتع بحياة كريمة، ولسبر أغوار الجراح التي أحدثتها في نفوسهم الحروب العبثية المتعاقبة.
1-دلالة العنوان:
يرى رولاند بارث أن للعنوان معان متعدد ومتزامنة، ومن ضمنها على الأقل :”1-إن ما يعلن به مرتبط بأحداث محتملة تعقبه،2- الإعلان بأن قطعة أدبية ستليه ( أي أن هناك، في الواقع، سلعة)، وبعبارة أخرى يقوم العنوان، دوما بوظيفة مزدوجة أكانت تلفظية أم إشارية”([2]). وهو يوحي بمعان كثيرة ويخاطب توقعات القراء، مستبقا ما يمكن أن يتضمنه النص من جهة ، ومقدما نظرة مجملة عن شكله أو محتواه من جهة ثانية. وبما أنه، علاوة عن تمييز النص ووسمه كما لو كان سلعة، فهو يتجسم في ذهن القارئ كما لو كان لغزا ينبغي تفكيكه لاستخلاص ما يحويه من حقائق مغفية وأبعاد دلالية ورمزية.
تتجلي الوظيفة التلفظية فيما خلفه الروائي في العنوان من آثار وبصمات ذاتية. ومن ضمنها:
ا- التثمين: ويتجلى في إدراج الروائي الصيغة التثمينية (Modalité appréciative) ” المُكيَّسة” في العنوان، وهي نعت لرؤوس الحرية.اشتقها الروائي من الاسم الجامد ( الكِيس وليس الكيْس) ، ويقصد به اسم ذات يدل على مادة لها حيز في الوجود. وهو وعاء من القماش أوغيره لاستيعاب الحبوب أو الدراهم وما شابه ذلك، ثم اشتق منه اسم مفعول ( مُكيَّسة) مستمد من الجذر ( كَيَسَ). ومن خلال السياقات التي ورد فيها لفظ ” مكيسة” يتضح أنه لا علاقة له بمثليه المشتق من ” كيَّس” ، والذي يعنى به جعل الإنسان كيِّسا أي ظريفا وحسن العمل؛ وإنما قصد به الوعاء الذي يوضع فيه الرأس لصد صاحبه عن معرفة ما ومن يحف به. ” وقف عاريا إلا من لباسه الداخلي والكيس الذي يغطي رأسه” ص176. ” عندما رأتهم يضعون( مكيسي الرؤوس) في سياراتهم ثم يمضون ورشاشاتهم مصوبة نحو ( الثالولة) التي غطتها المروحيات المدججة بالصواريخ” ص165.” معظم ذوي ( مكيسي الرؤوس) وأكثرهم من عمال البناء والباعة المتجولين” . ” لعل واحدا من هؤلاء يفهم أن كل ( مكيسي الرؤوس) فقراء أبرياء لا علاقة لهم( بطويل أو قصير!” ص165. ” نزل( رجل مكيّس) الرأس صحبة جندي أمريكي بنظارة سوداء، رفع الكيس عن رأسه ثم عاد مسرعا نحو سيارته” ص264.
ب-الإيحاء: قرن الروائي الرؤوس بالأكياس للدلالة على معاناة العراقيين من العسف والحيف الأمريكيين. فهم لا يعاملونهم معاملة إنسانية، ولا يحاكمونهم محاكمة عادلة، وإنما يمارسون عليهم أعتى أصناف التعذيب النفسي والانتهاك الجسدي. ومن ضمنها تغطية رؤوسهم بأكياس لصدهم عن معرفة جلاديهم والأمكنة التي يستنطقون ويعذبون فيها، و الحط من معنوياتهم وتأزيم حالتهم النفسية. وقد تولد عن إضافة الحرية إلى الرؤوس انزياح لكون اللفظين يتنافران تركيبيا ( الجمع بين الملموس والمجرد، وبين الحي وغير الحي) ودلاليا ( أسندت الرؤوس لغير فاعلها، وذلك لأن الحرية ليس لها رأس). ولا يتبدد هذا الخرق التركيبي والدلالي ( نفي الانزياح) إلا بالانتقال إلى المدلول الثاني وهو المقصود ، أي رؤوس العراقيين التواقين إلى حرية بلدهم وسيادته. لكن الأمريكيين، ومن يدور في فلكهم، يقطفون ما أينع منها ليرغموا أصحابها على تبني وسوغ مشروعهم لدمقرطة العراق على هواههم ومقاسهم،وبماركة ” الحكومة الجديدة” التي لا تحرك أدنى ساكن إزاء المجاز التي ترتكب في حق المواطنين العزل.
2-التوليف :
اعتمد جاسم الرصيف في روايته الأخيرة على تقنية التوليف المعتادة في معظم رواياته. وتضطلع هذه التقنية، عموما، بوظيفتين. تتعلق أولاهما بمقروئية العمل. وفي هذا الصدد يشكل التوليف عاملا معرفيا (Opérateur cognitif) يدعم تمساك مكونات النص وعناصره. فالغاية المتوخاة منه لا تكمن في إلصاق حكاية بأخرى، وإنما في إقامة علاقات فيما بينها. وتكمن الوظيفة الثانية في الإبداعية(Créativité) التي ينبغي للروائي، على نحو المخرج السينمائي، أن يتحلى بها للخروج عن بعض القواعد المتعارف عليها، وإعادة تقويم الواقع واستكشاف مجهولاته بطرائق ومنظورات جديدة([3]).
لقد حتم التوليف على جاسم الرصيف تقطيع القصة ( المدلول الحكائي) إلى شذرات حكائية لالتقاط أحداث متزامنة يتعذر على الترتيب الخطابي استيعابها. ” يمكن لأحداث كثيرة في القصة أن تجري في الوقت نفسه، لكن الخطاب ملزم على ترتيبها على نحو يأتي الواحد منها عقب الآخر” ([4]). لقد اضطر جاسم الرصيف ، محاولة منه لفهم كيف تتفاعل الشخصيات وتنفعل مع الحدث نفسه في فترة متزامنة، إلى إيقاف محكي واستئناف آخر. وإن تداخلت المحكيات فيما بينها فهي تتمتع ظاهريا باستقلال بنائي ودلالي. وهذا ما يمكن أن يحفز القارئ على استلال محكي” البدراني” أو غيره من البنية الحكائية العامة أو تتبع مساره قافزا على محكيات أخرى بهدف معرفة ما حصل له في النهاية. لكن بما أن الروائي أفرغ محكياته في سبيكة واحدة، فهذا يقتضي البحث عن طبيعة العلاقات المنسوجة داخلها. ويندرج التوليف الحكائي عموما في إطار التعريف ببورتريهات الشخصيات، وتشخيص حدث معين من زوايا ومنظورات مختلفة، وتكسير بنية الوقائع المتعاقبة بطريقة كرنولوجية، وتنويع اللغات والأصوات.
3-البورتريهات:
إن السمة الغالبة على مختلف المحكيات المتناسلة هو التركيز على البورتريه. فتارة يقدم الروائي بورتريه شخصية رئيسة، وتارة يعرض بورترية المكان الأساس الذي تجري فيه معظم الأحداث، ويمثل صورة مصغرة للعراق (ما يجري في الفضاء الرئيس: الثالولة). وفيما يلي بعض البورتريهات الأساسية في الرواية:
* العضباء: استشهد زوجها قبل يومين من توقف الحرب العراقية-الإيرانية، مخلفا وراءه ابنا ( زمن) وبنتين( صمود وعنود). لم يسعف المعاش المتواضع العضباء على مواجهة تصاريف الحياة وتكاليفها، فاضطرت إلى منع ابنها من مواصلة مشوار الدراسة واشترت له عربة لبيع الخضار، لكن الشيخ بعيو أجبره على الانخراط في الجيش الشعبي ( غير النظامي) رغم حداثة سنه وعدم تدربه على حمل السلاح قط . وبعد أن احتل الأمريكان العراق تلاشى الجيش الشعبي كما يذوب فص الملح ، فأطلق سراحه بعد أن قضى ردحا من الزمن في السحن بسبب صد جندي أمريكي من التحرش بأخته أثناء مداهمته لبيتهما صحبة جنود آخرين. تكلف البدراني بعشاء الضيوف احتفاء بعودته إلى والداته التي لم يهدأ لها بال وهي تتابع عن كثب أخباره في غيهب السجن. وكان البدراني، بين الفينة والأخرى، يقرض العضباء لتسديد ديونها ومواجهة المصاعب التي تعترضها. وكانت تتمنى أن يصبح زوجا لإحدى بنتيها لما يتوفر عليه من مواصفات تحبذ أي أم أن تكون متوفرة في زوج ابنتها.
* زمن: أصبح، بعد غزو العراق، عاطلا عن العمل بعد أن قضى فترة من الزمن في صفوف الجيش الشعبي. لا يحلم إلا بشراء سيارة أجرة لإسكان أسرته في بيت نظيف. ألقى الأمريكان القبض عليه للتحقق من كونه سنيا أو شيعيا، واستدراجه للتعاون معهم قصد تزويدهم بالمعلومات الهامة. بعد إطلاق سراحه، بدأ يجوب الشوارع بعربته لبيع الحلوى والسجائر والعلك. حفزه كرم على الانخراط في المقاومة لمواجهة المحتل الأمريكي الذي استحدث فرقا للموت بهدف بث الرعب في صفوف الناس وثنيهم عن مساندة المقاومة الوطنية ودعمها. ولم يستسغ زمن أن يعاين مظاهر مستبشعة تتمثل أساسا في إقدام هذه الفرق على قتل الأطفال والأبرياء بطريقة همجية ومتوحشة.” والمصيبة المصيبة أنهم قتلوا أربعة أطفال!!؟؟ ما ذنب الأطفال؟!! يمكن هذا من علامات يوم القيامة!! الدماء في كل مكان!! والجثث!! أين الرحمة؟! أين الإنسانية؟! أين الحكومة الجديدة؟!” ص315.
كاشان:امرأة جميلة تحضن في بيتها فتيات لجلب الزبائن ذوي الدخل المحترم. وتسخر بعضهن وفتيان آخرين لجمع النفايات من مزبلة الشيطان بوادي الحرامية، وإعادة بيعها إلى المخضرم بن عمشة الذي يتكلف ببيعها إلى المهربين الدوليين وأصحاب المعامل لإعادة تصنيعها. وهو، بدوره، ويعرض على كاشان، بين الفينة والأخرى، اقتناء بضائع جديدة (حبوب منع الحمل، قنابل يدوية، مسدسات، خضار، بندقية أبو عرنة المسروقة..) حتى لا تتأثر شؤونها المالية نتيجة لما آلت إليه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في العراق. واضطرت، على إثر تراجع نشاط المزبلة بسبب بدخول الأمريكان إلى العراق، إلى جمع النحاس المتطاير من القنابل المنفجرة، و البحث عن زبائن جدد حفاظا على وتيرتها المعتادة في الحياة. أهانها البدراني لأنه لم يستجب لطلب للزواج بها بعد أن اكتشف خيانته له مع من تؤثره عليه ( الأحيمر) لأنه يمارس الجنس بطريقة متوحشة كما هي عادة الغمر. ومع ذلك فهي تشعر، في قرارة نفسها، بأنها تحب البدراني وتحرص على عدم فقدانه بعد أن خبر تضاريس جسدها سنينا عديدة، وتؤثره على كثير من الرجال الذين يتمنون لحس قدميها مقابل مأوى أو طعام أو متعة جنسية . كان لاختفاء البدراني المفاجئ عن بيتها أثر كبير في نفسيتها ، لذا اقترحت على المخضرم مساعدتها على الانتقام منه، ووعدها بأنه سيصير” سلاطة لا تصلح لغير الكلاب” ص251. إن طبيعة العلاقة التي تنسجها مع عينة من الرجال، تفتح لها أفاقا ومشاريع جديدة. وفي هذا الصدد، ندرج تشجيع كاكا صالح لها لتوسيع دكانها حتى يستوعب أكبر عدد من البضائع وتجهيزه بتلفاز ومولد كهرباء. وهو ما در عليها مصاريف إضافية، وجعلها تستقطب الزبائن الذين كانوا يترددون على مقهى أبو عرنة. خصصت مبلغا ماليا لمن يدلها على ” إخلاص” باعت شرفها وهي عذراء لكاكا صالح الذي باعها بدوره إلى أجانب. أفلتت من قبضة كاشان بعد عودتها مغتصبة فاقدة لعذريتها، فاختفت أياما في بيت العضباء قبل أن يقودها البدراني وهو ملثم إلى مكان مجهول.
البدراني: ينتسب إلى مدينة الرمادي ( محافظة الأنبار).تخرج من جامعة بغداد، ثم أدى الخدمة المدنية بصفة ( نائب عريف مهذب)، ثم أصبح مدرسا للتربية الوطنية. اختار اسما مستعارا ( أحمد محمد البدراني) دون أن يتمكن أحد من أهل الثالولة من معرفة هويته الحقيقية. فر إلى دهوك بعد أن تناهى إلى سمعه بأنه مطلوب من لدن نظام صدام بتهمة إطلاق رصاصتين طائشتين تحية لروح اللواء الركن الطيار ” محمد مظلوم” الذي أعدم بتهمة التآمر على الحكومة آنذاك . ومنذ أن ضبط البدراني كاشان متلبسة مع الأحيمر أصبح يشعر بأنها تنظر إليه بعين شزراء، لكنه تصرف بطريقة مرنة مع الواقعة ، إذ اضطر إلى تجاهلها كما لو أنها لم تحدث قط، وذلك لأنه يدرك بـأن نفوذها تعزز بفضل علاقتها المريبة مع متعاونين مع قوات الاحتلال، وبأن حمايتها له، ماديا ومعنويا، أنقذته من السجن ووفرت عليه عناء الشحاذة . ومع ذلك يتحسر على الثماني سنوات التي قضاها سائقا لها أو نائما على فراشها الذي تفوح منه روائح الفجور ومزبلة وادي الحرامية.
اتخذ اسما مستعارا آخر حتى لا يتعرف إليه الجواسيس والمخبرون ، خاصة بعد أن أصبح متهما بالتعامل مع جهات معادية في الشمال وعبور الحدود دون إذن رسمي من لدن الحكومة. في السليمانية ، حاول العقيد الركن المزور إقناعه بالتعاون مع الأكراد لتزويدهم بمعلومات ثمينة عما يجري في القصر الجمهوري مقابل مال وجواز سفر إلى دولة أخرى، لكنه فاجأه بأن لا يحمل إلا معلومات تافهة. ” فأجبت دون تردد: لأن معلوماتي تافهة!! أنا مجرد موظف في بلدية. هل يريد (الأستاذ هفال) معلومات عن مزابل المدينة وعدد الكناسين؟!” ص195. أصيب ، قبل الاحتلال، بالعرج إثر انفجار سيارة كانت تقوده، صحبة أكراد، إلى اجتياز الحدود التركية. قضى بضعة شهور في مستشفى قروي عراقي ، ثم عاد إلى السليمانية ليقابل صديقه الكردي(أنور عبد العزيز) الذي استمات في مساعدته على الهروب خشية أن يتعرف الجواسيس إليه .وبعد أن تبين للبدراني أن إقامته في السليمانية قد سببت لصديقه مكروها ما ( أهو حي أم ميت)، اضطر إلى التوجه إلى الموصل مشيا على الأقدام رغم أنه أعرج ومتنكرا في صورة درويش. يتردد على الثالولة بين الفينة والأخرى متخفيا حتى لا يتعرف إليه أحد. واستقر به المقام في الثالولة نتيجة عوزه المالي وخوفه من العودة إلى الرمادي على عهد صدام.
* الثالولة: ما يحدث في الثالولة صورة مصغرة لما يقع في العراق برمته بعد أن أنهكه الحصار الدولي المضروب عليه منذ سنة 1991، وزادت الغارات الأمريكية، أثناء الاحتلال، من تأزيمه وتدهوره. كانت تعيش على إيقاع خاص مضبوط من لدن ( الشيخ بعيو) استعدادا لحرب أخرى دفاعا عن الوطن، لكن سرعان ما تغير إيقاع الحياة على إثر دخول الأمريكان إلى الثالولة، وذلك لتصوير السكان وهم يبحثون في المزبلة، ومباغتة كل من كان يخدم النظام السابق. ومن الأسماء التي ألقوا القبض عليها نذكر: زمن لأنه كان منخرطا في الجيش الشعبي الذي يشرف عليه الشيخ بعيو، وحاول ضرب جندي أمريكي نتيجة التحرش بأخته،و دليو الذي خرج من سجن الحكومة ليدخل سجن الأمريكان، وعلى ملا حمادي بوصفه نائب ضابط متقاعد ومتطوع رغما عنه في الجيش الشعبي لمقاتلة الأمريكان في الخنادق التي تحف بالثالولة. ثم بعد ذلك اختطفت أسرته. فر الشيخ بعيو إلى مكان مجهول دون أن يُعرف له أثر. انتعشت في الثالولة كثير من الظواهر الاجتماعية من جراء لهث الناس وراء الدولار ولو كان على حساب كرامتهم ( السرقة والتهريب والعهارة والجوع والبطالة والغش). ومن ضمنها نذكر البغاء والتهريب والتنقيب في المزابل. ومن بين القضايا التي استأثرت باهتمام السكان هو دخول التلفاز إلى مقهى أخو عرنة، وهو ما مكنهم من مشاهدات قنوات كانوا محرومين منها في العهد السابق. ولم يسلم هذا المقهى من الرصاصات التي يطلقها مسلحون مجهولون لتصفية أفراد المقاومة وترهيب الساكنة، وهو ما أدى إلى قتل مالكه وأربعة أطفال وشاب ورجلان عجوزان.
4- تغيير زوايا التبئير :
حتمت تقنية التوليف على البدراني تبئير الأحداث من زوايا مختلفة. وإن كانت تبدو ظاهريا بأنها متوقفة على التبئيرين الآتيين:
أ-التبئير الداخلي(Focalisation interne): يُقدم كل شيء من خلال شخصية البدراني. فهو ، بصفته فاعلا داخليا، يتعاون مع الناظم الخارجي لسرد الأحداث وإضاءة جوانبها الداجية من زوايا مختلفة، ويعرض أحداثا شارك أو تفاعل معها بطريقة سلبية أو إيجابية. إن التطابق الحاصل بين محفلي التبئير ( البدراني الطفل أوالطالب أوالموظف) والسرد ( الرجل الناضج الذي يسترجع ذكرياته)، لا ينبغي أن يطمس اختلاف وظيفتهما. وهكذا، فالسارد، في أغلب الأحوال تقريبا، ” يعرف” أكثر من البطل حتى ولو كان هو البطل نفسه”([5]).
إن التمييز بين مختلف أنواع التبئير ليس مطلقا، إذ يمكن أن يتحدد التبئير الداخلي على شخصية بكونه تبئيرا خارجيا على شخصية أخرى. وهذا ما نعاين جزءا منه عندما يتحدث البدراني عن بعض الشخصيات ( أنور عبد العزيز وبكر و العقيد الركن المزور عدنان والأستاذ هفال الجاسوس الكردي) التي تعرف إليها لكنه يجهل أشياء كثيرة عن أفكارها ومشاريعها.وإن بأر السرد على شخصيته فهو يتجنب الخوض في بعض القضايا التي تمس خلقته(عاهة العرج) أو مصيره( مبالغته في التخفي عن الأنظار بعد سقوط بغداد) أو طبعه(احتراسه من الأخطار المحذقة به) وهذا ما جعل منه شخصية مبهمة وملغزة.
ب-البتئير الصفر: ما تبقى من الأحداث يبدو غير مبأر ( التبئير الصفرFocalisation zéro). فبواسطة الشخصيات المُبأّرة تتوالى الأحداث ويسترسل السرد. ومن خلال هذا النوع من التبئير يتضح أن الناظم الخارجي يعرف أكثر مما تعرفه الشخصيات، فهو ملم بكل شاذة وفادة تهم أفكارها وأهواءها وحركاتها. ومع ذلك قصد أن يحذف بعض الأحداث( على نحو عدم تحديد الوجهة التي فر إليها الشيخ بعيو) وذلك لحفز القارئ على تشغيل خلفياته المعرفية وإعمال ذكائه لملء الفجوات والبياضات بما يناسبها من وقائع، وتعليلها وتأويلها وفق السياقات التي وردت فيها. وفي النطاق نفسه، أغفل التطرق إلى مصير بعيو لأنه، احتكاما إلى السناريوهات الممكنة، قد يكون متخفيا في مكان آمن خشية أن يلقي الأمريكان أو معاونوهم ( خاصة من ملشيات البيش مركة) القبض عليه لاستنطاقه وتعذيبه وإعدامه.
ويشترك الناظم الخارجي والفاعل الداخلي في تبني الوظيفة الإيديولوجية نفسها، والتي تتمثل في وضع عبارات كثيرة داخل أقواس للتعليق على حدث أو تبريره أو تفسيره وهو ما يدعم “التعليل الواقعي”([6]). ولما نستقرئ هذه العبارات، التي بالغ الروائي في توظيفها، نجدها تنتسب، عموما، إلى المحاور الآتية: السخرية ( على نحو: ” بعد أن شتمت مجموعة راكضة من الأطفال (أولاد الجائفات!!) السائبين كاد أحدهم أن يسقطها على الأرض” ص16، ” مع أوائل أشعة الفجر، اجتمعت ( أصابع كاشان النظيفة) أو (شركة الشيطان)، كما يحلو لبعض الساخرين تسميتها” ص28) أو للتوضيح ( لأنه ( ابنها الوحيد الذي يعيل العائلة الآن) ص11، ” فأخذتها منه متظاهرة بالامتعاض من ( خسارتها في هذه الصفقة!!) ص29) أو تكرير عبارات مسكوكة معللة تعليلا موضوعيا مزعوما([7]) ( ” تناول العشاء الذي جلبته له أمه مع وصية (السياسة لعنة فلا تقربها!!) ص16،” في اليوم الأول للحرب: (فداكم وفدى أمتنا المجيدة الأهل والولد!!) ص30).
5-الأصوات الإيديولوجية:
تحفل الرواية بأصوات إيديولوجية عديدة تتصارع فيما بينها لانتزاع الشرعية فيما يخص تدبير الشؤون العامة وتسيير دواليب الحكم. على المستوى العمودي تتجابه قوتان غير متكافئتين: نظام صدام الذي ما أن ينهي حربا حتى يدخل في حرب أخرى بدعوى الدفاع عن ” الأمة المجيدة”، وهو ما أثر سلبا على المستوى المعيشي للشعب وسعيه إلى حياة كريمة. وفي المقابل تذرع الرئيس الأمريكي ب” الكذبة النبيلة” ( على حد تعبير المحافظين الجدد) ليعطي الضوء الأخضر لجيوشه بغزو العراق وتنحية الطغمة التي تحكمه و”دمقرطة” مؤسساته. وإن استطاعت القوات الأمريكية بسط نفوذها على التراب العراقي فهي لم تستطع أن تحقق ما كانت تصبو إليه. لقد وجدت نفسها، مع مر السنين، في مستنقع دموي رهيب محفوف بشتى المخاطر، ومشرع على آفاق مغلقة وقاتمة. ولما قرر بوش غزو العراق سانده الأكراد بهدف سحق أعدائهم في بغداد والانتقام منهم. ولما دخلت الجيوش الأمريكية إلى العراق، ساعدها البيش مركة على تعرُّف معالم المناطق المكتسحة وخصوصياتها، واعتقال كل من له صله بنظام صدام حسين، وترجمة استنطاقات المشتبه فيهم إلى اللغة الانجليزية .
توجد، على المستوى الأفقي، أصوات إما تؤيد هذا الطرف أو ذلك أو تناوئهما معا متبنية اختيارات أخرى أملاها الوضع الأمني المتأزم في العراق. وفي هذا الصدد يعتبر الشيخ بعيو ركنا من أركان نظام صدام المتهالك. فهو الذي يرغم الناس على التجنيد، ويتفقدهم في خنادقهم قصد تهيئهم ماديا ونفسيا للدخول في حرب جديدة على الأبواب. وبالقابل، يعد من تقاعس عن أداء الخدمة العسكرية بالإعدام. ولما دخل الجيش الأمريكي إلى بغداد فر الشيخ، أسوة بالرؤوس الكبيرة، إلى جهة مجهولة.لم يستجب أغلب السكان لدعوة الشيخ بعيو للانخراط في الجيش رغم التهديدات الموجهة لهم، وفضلوا البحث عن حلول أخرى لمواجهة تكاليف الحياة الصعبة. وهكذا ظهرت في زمن الحرب فئات اجتماعية جديدة؛ وذلك على نحو “العواليس” الذين يمتصون دماء غيرهم لإشباع شهواتهم السادية وتحقيق مآربهم الشخصية، والمهربين الذين يتسللون من الحدود لجب البضائع غير المتوفرة في الأسواق، ويعزون انتعاش نشاطهم التجاري وتحسن أحوالهم المعيشية إلى تحرر البلاد من الديكتاتورية ودخول الأمريكان إلى بلدهم لتحويله إلى جنة في أيام معدودة.وهذا ما يصرح به تباعا كاكا صالح والمخضرم اللذان يزودان كاشان بالبضائع الجديدة التي تدر عليها الأرباح.” شغلي التلفزيون، يعمل بالستلايت، وتفرجي على ما يدور في الدنيا، تحررنا من الدكتاتورية التي منعت عنا كل شيء” ص156.” لا يهم!! سيحولون البلد إلى جنة بعد أيام! أمريكا كلها هنا!! سنرى ما لم نره من قبل” ص175.
وفي الشمال تزايدت احتجاجات الأكراد لقلب نظام صدام وتسلم زمام الحكم. ولهذا ساعدوا الجيوش الأمريكية على غزو العراق لتحقيق مطالبهم والانتقام من أعدائهم.
يعكس البدراني صورة المقاوم المحبط والمثقف المأزوم الذي يعلن صراحة مقته لنظام صدام، ويعيش في الوقت نفسه في وسط ” منحط” بدعوى أن يضمن له الأمان والاستقرار والمتعة الجنسية. مثلت له خيانة كاشان صفعة مدوية أيقظته متأخرا من سباته ليبحث عن ملاذ آخر يقيه من شر المتربصين به. لم يستسغ التعاون لا مع الأكراد ولا مع الأمريكان مؤثرا أن يظل ذلك المثقف الحريص على سمعته و الوفي لمبادئه ( مواصلة المقاومة إلى أن يُبعد المحتلون ويتحقق التغيير المنشود). فضل أن يشاهد ما يجري في العراق من ستار متوجسا من عيون تترصده أينما حل وارتحل. إن صمته وحركته جعلا منه شخصية ملغزة ومبالغة في الحيطة والحذر. لا تفهم هذه الخاصية المتأصلة في نفسيته ونحيزته إلا مقترنة بوضع العراق الذي تتجاذبه أطراف متعددة لا تزيده يوما بعد يوم إلا التباسا وتعقيدا.
وتظل عامة الشعب خارج اللعبة السياسية بدعوى تذمرها من المسؤولين الكبار (على نحو أنور عبد العزيز الكري) أو تأزم وضعها المعيشي بسبب انتفاء المواد الأساسية( على نحو نفط الوقود الذي يستعمل للإنارة وطبخ الطعام، مع العلم أن العراق يعد من الدول المصدرة للنفط) أو التباس الأمر عليها بين صدام وبوش لكونهما يمثلان وجهين لحقيقة واحدة، وهي ترهيب الناس وإبادتهم في حرب عبثية رغما عنهم بحجة دفاعهم عن ” القيم الأصيلة”، التي لم يجن منها الشعب، عكس ما توقعاه وأرهصا به، غير الكوارث والجوائح. وتظل المقاومة الوطنية ( نموذج كرم) نقطة مضيئة في دهاليز معتمة لإنقاذ هذا الشعب من المحن التي ابتلي بها وأدى ثمنها غاليا، وحرمته من العيش الكريم في دولة حرة وذات سيادة.
[1] - صدرت عن المؤسسة العربية للنشر،ط1، 2007. من رويات جاسم الرصيف نذكر أساسا: الفصيل الثالث (1983)، القعر(1985)، أبجدية الموت حبا(1991)، تراتيل الأود(1992)، ثلاثاء الأحزان السعيدة(2001)، مزاغل الخوف(2004)..الخ.
[2] -Roland Barthes : « Analyse textuelle d'un conte d'Edgar Poe » in Sémiotique narrative et textuelle, Hachette,1973, p33.
[3] - استلهمنا هاتين الوظيفتين من:
Daniel Weyl : « Montage poétique » in Le collage et après, sous la direction de J.Louis Flecniakoska, L'Harmattan, coll,Esthétiques, 2000, pp53-59.
[4] -Tzvetan Todorov : « Les catégories du récit littéraire » in L'analyse structurale du récit , Communication8, Seuil, 1981, p145.
[5] -Gérard Genette : « Discours du récit » in Figures III, Seuil,1972 ,p 210.
[6] -Ibid p 263.
[7] - يعرف ميخائيل باختين التعليل الموضوعي المزعوم على النحو الآتي :”يظهر …وكأنه أحد مظاهر أقوال الآخرين المستترة، وفي حالتنا يبدو وكأنه من أقوال ” الرأي العام”. وجميع العلامات الشكلية توضح أن هذا التعليل صادر عن الكاتب الذي هو متضامن معه شكليا، إلا أن التعليل، في الواقع، يتموضع داخا منظور الشخوص الذاتي، أو منظور الرأي العام”. انظر في هذا الصدد إلى : الخطاب الروائي، ترجمة محمد برادة، دار الأمان، ط1، 1987، ص66.